أسلاك شائكة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 أكتوبر 2015 - 7:30 ص
بتوقيت القاهرة
صورتان هزتا الضمير الإنسانى من الأعماق، صورة طفل ألقت بجثته الأمواج فوق رمال شاطئ، وصورة مئات الجنود يفردون أسلاكا شائكة على طول حدود بلادهم. الصورتان تؤكدان مرة أخرى ان العالم ليس بخير.
* * *
صورة الطفل حركت أفئدة الملايين فى شتى أنحاء العالم، وفرضت قضية اللاجئين والمهاجرين لتتصدر أجندة السياسيين فى أوروبا وخارجها. ونبهت إلى أن نيران الأزمة فى سوريا لو تركت مشتعلة فلن تتأخر شرارتها عن الوصول إلى قلب أوروبا.
صورة الأسلاك الشائكة المصفوفة على حدود المجر، أثارت ذكريات أليمة. ذكرت الأجيال المتقدمة فى العمر بعذابات النازية والستالينية والفاشية، وشدت انتباه الأجيال الأصغر إلى احتمالات عودة هذا النوع من أنظمة السياسة، عودة بدأت فى حالات بعينها متلصصة وانتهت جهرا وممارسة صريحة. أثارت مخاوف لدى فئات كثيرة فى مجتمعات عديدة، وأثارت فى نفسى، أنا شخصيا، انفعالات شتى وذكريات مرة.
***
شاء حظى كحظ عديد من الأطفال، أن أصاب عشرات المرات بجروح ناجمة عن احتكاكى أثناء اللعب فى حدائق عامة بهذه الأسلاك الغاشمة. أذكر تحديدا إصابة نتيجة احتكاك بسلك شائك فى حدائق القناطر الخيرية انتهت بحقنة مضادة لاحتمالات الإصابة بالتيتانوس. أذكر أيضا الآلام المبرحة التى تعرضت لها نتيجة الارتطام ليلا بكوم من الأسلاك الشائكة فى معسكر للكشافة بصحراء حلوان، ولم أكن قد تجاوزت الحادية عشرة من عمرى.
لازمتنى العلاقة مع الأسلاك الشائكة حتى سن المراهقة. هذه المرة كان غيابها عن مكانها المخصص لها سببا فى أزمة حدود كان يمكن ان تتطور لتشكل اشتباكا مسلحا. كان الجيش قد وضع حاجزا من الأسلاك الشائكة على الطريق فى غزة المؤدية إلى الحدود مع إسرائيل، وكانت النصيحة لنا كشباب يمتطى دراجات هوائية ويتلهف على رؤية إسرائيليين من أقرب نقطة ممكنة، هى أن نتوقف عند هذا الحاجز وننظر عبره إلى فلسطين المحتلة وجنود الاحتلال ثم نعود أدراجنا إلى قلب مدينة غزة. يشاء حظى العاثر مع الأسلاك الشائكة، أن تغيب عن مكانها فى هذا الصباح الباكر، بفعل فاعل أو تدحرجت بفعل الرياح، فنتوغل مئات الأمتار على الطريق المفتوحة أمامنا لنجد أنفسنا فى قبضة جنود إسرائيل.
* * *
عشت طفولتى وسنوات مراهقتى ومطلع شبابى أكره الأسلاك الشائكة، كرهتها بسبب تجاربى المؤلمة معها، ولكن أكثر بسبب تمردى الدائم على كل حاجز أو جدار أو عقبة. كنت أغضب عند سماع كلمة «عيب»، لا تجلس هكذا لأنه عيب، ولا تقف هكذا لأنه عيب، لا تقل كذا لأنه عيب. ثم صرت أغضب من كلمات أو عبارات مثل حرام وغير اللائق وغير المناسب وممنوع. مررت بمراحل كرهت فيها علامات المرور التى تنهينا عن المضى فى اتجاه معين أو تحرم علينا الانتظار. كنا نكره أسوار المدرسة وكل الأبواب التى تفرض علينا أن نعيش داخلها فلا نرى خارجها، أو تحرم علينا ونحن خارجها رؤية ما بداخلها. ظن الكبار من حولى أنها إحدى نزوات الشباب، واقتنعت لفترة إلى أن وجدتها تنشط مع كل جدار أقف أمامه أو سلك شائك يقف فى طريقى أو أمام كل إيحاء من سلطة أو كبير بالامتناع عن أداء فعل أو آخر أو التصريح برأى أو آخر ــ أذكر جيدا هذا الشعور البغيض الذى ملأنى حتى فاض وأنا أرى للمرة الأولى جدار برلين الشهير فى أيام الحرب الباردة وأتجول قريبا منه فى محاولة للتماهى مع مشاعر السكان على الناحيتين. شعب واحد يقسمه جدار أسمنتى غبى.
* * *
أعود إلى المغزى لقرار نشر أسلاك شائكة على حدود دول فى شرق ووسط أوروبا. نعرف أن الرجل الذى اخترع السلك الشائكة Joseph Glidden فى عام ١٨٧٤ كان يقصد حماية أبقاره وحيواناته من اللصوص والحيوانات المفترسة. لذلك أقدر أهمية هذا الاختراع فى تعمير الغرب الأمريكى. وأقدر دوره فى تطور أساليب الحرب، حين لعبت الأسلاك الشائكة دورا رئيسا فى حرب الإنجليز ضد البوير، وفى الحرب العالمية الأولى. ظل المغزى واضحا. وهو أن وظيفة الأسلاك الشائكة ردع المجرمين والمفترسين. كانت سعادتى فائقة عندما قرأت أن شركة Mutanox الألمانية المنتجة للأسلاك الشائكة، رفضت الشهر الماضى طلب المجر تزويدها بمئات الأميال من الأسلاك الشائكة. كانت حجة الشركة «أننا ننتج السلك الشائك لمنع الأعمال الإجرامية كالسرقة، ومعلوماتنا تؤكد أن العابرين الحدود من الكبار والأطفال على حد سواء ليسوا مجرمين». كان الهدف منع المجرمين وليس منع المهاجرين.
أما وقد صار الهدف منع المهاجرين، يكون المغزى من مد الأسلاك الشائكة على طول الحدود فى المجر وغيرها قد تغير، وربما، وللأسف الشديد، أصبح الهدف «إغلاق أوروبا»، فى وجه المسلمين القادمين من الشرق الأوسط.
* * *
صندوق باندورا يفتح من جديد، «لا أقصد به صندوق طماطم كما جاء على لسان أحد خبراء قنوانتا الفضائية، أنما أقصد الأسطورة الإغريقية التى تحكى عن الهدية التى تلقتها باندورا وكانت فى شكل وعاء زجاجى إن فتحته خرجت منه آلاف الشرور وإن أغلقته فقد حبست الأمل داخله». ففى شهر واحد عدنا نقرأ لمعلقين تذكروا فجأة حصار العثمانيين لمدينة فيينا فى عام 1683، وكيف أن جيوشا من شرق ووسط أوروبا وبخاصة من بولنده وليتوانيا هى التى ساعدت فى فك هذا الحصار، ولولا هذا التدخل لسقطت فينا ودخل المسلمون النمسا ومنها إلى غرب أوروبا ولتغير وجه أوروبا وعقلها إلى الأبد. هذه أجراس حرب دينية أغلبنا لا يتمناها ولا يسعى إليها.
****
أخشى أن تكون الأسلاك الشائكة إنذارا مبكرا لكل الأوروبيين بأن موجات عنف دينى على وشك أن تبدأ، وأن حرب «الردة» على الوحدة الأوروبية من جانب قوى التطرف فى كل أوروبا توشك على الاشتعال، أو لعلها اشتعلت بالفعل.