إلى نعمات أحمد فؤاد.. سلاما
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 7 أكتوبر 2016 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
رغم غيابها وعزلتها فى سنواتها العشر الأخيرة من عمرها، إلا أن حضورها الثقافى والفكرى و«التاريخى» لم يخبُ إلا قليلا، أذكر أن اسمها وحده فى مرحلة الصبا كان كفيلا باقتناء وقراءة أى شىء وضع عليه هذا الاسم الذهبى. وأذكر أننى كنت أتابع مقالاتها فى (الأهرام) عن أساتذتها الكبار بعنوان «هؤلاء علمونى» (جمعت هذه المقالات المهمة فى كتاب بعنوان «أعلام فى حياتنا» صدر عن دار الهلال)، كانت هذه المقالات نافذة ممتعة وباهرة عن رواد الأدب والفكر والثقافة فى القرن العشرين؛ من مثل أحمد لطفى السيد، عباس العقاد، أحمد حسن الزيات، الشيخ أمين الخولى.. وآخرين.
أما كتابها الممتع «شخصية مصر» الذى اقتنيته فى سن باكرة (طبعة الهيئة العامة للكتاب)، فلم يكن يفارقنى طيلة سنوات ما قبل الجامعة، كنت أقرأه وأعاود قراءته لسهولته وغزارة مادته وروحه الطيبة المحبة العاشقة لتراب هذا الوطن وتاريخه وتراثه وأمره جميعا. ولا أعلم إذا لم يكن كتاب مثل هذا يمكن أن يُضَّمن ضمن برامج ومقررات الدراسة فى مراحل التعليم الأساسى (أو على الأقل بعضا منه) فماذا يمكن أن يقدم للطلاب والطالبات عن حب مصر وتاريخ مصر وحضارة مصر؟!
للأسف الشديد، يمكن القول إنه بوفاة الكاتبة الرائدة والمؤرخة المصرية الكبيرة نعمات أحمد فؤاد (1926 ــ 2016) تنطوى مرحلة كاملة من تاريخ ثقافى وفكرى وتنويرى زاهر مثلها اسمها المشرف، الذى اقترن لدى أجيال وأجيال بالمعنى الحقيقى للثقافة وحب القراءة والإقبال على المعرفة والشغف بها. لم يكن اسم نعمات أحمد فؤاد يتردد فى وجدان الآلاف من القراء فى مصر والعالم العربى، إلا وهو يحمل ظلالا من حقبة عامرة بالإنتاج والعطاء العلمى والثقافى. ويذكر متابعوها من الأجيال الكبيرة مقالاتها التى كانت تنشرها فى جريدة (الأهرام)، وسط نخبة من ألمع نجوم الكتابة فى ذلك الوقت؛ أمثال لويس عوض، يوسف إدريس، زكى نجيب محمود، رجاء النقاش، وألفريد فرج.. وغيرهم.
ولأن السيدة الجليلة نعمات أحمد فؤاد كانت تنتمى إلى الرعيل الأول من الآنسات المصريات اللاتى تخرجن فى الجامعة وتتلمذن على يد كبار الأساتذة فى الجامعة وخارجها، فإن عطاءها العلمى والثقافى بدأ مبكرا جدا، إذ بدأت النشر فى دوريات ذلك العصر وهى ما زالت بعدُ طالبة فى الجامعة المصرية. نشرت مقالاتها الأولى فى المجلات والدوريات الثقافية الزاهرة فى هذا العهد المنير، وتوطدت صلاتها بأعلام ذلك الزمان؛ منهم أحمد حسن الزيات، عباس محمود العقاد، طه حسين، أمين الخولى، أحمد أمين، إبراهيم عبدالقادر المازنى، وآخرون.
تشربت نعمات أحمد فؤاد من هؤلاء جميعا قيمة الكتابة وشرفها، والإسهام الجدى والفعال فى مقدرات الوطن والأمة، وخلال عمرها المديد تركت مكتبة كاملة ورائعة من المؤلفات والكتب التى احتلت مكانها فى المكتبة العربية، أدبا وفنا، تراجم وسيرة، تاريخا ونقدا، فكرا دينيا مستنيرا ومقالات فى الشأن العام.. وكانت تؤمن تماما بأن الكاتب المؤرخ هو ذاكرة شعبه، كما هو ضميره ووجدانه، وأن شعبا بلا ذاكرة يسرح فيها الشر ويمرح الشيطان الذى فقد الوازع وافتقد الرادع فانطلق للشر. وكانت ترى أن الشعوب تنتكس وتبتئس قلوبها وتهتز المقاييس فيها وتنهار القيم بسبب عدم كشف العيوب وتغطيتها، فإن تغطيتها املاء لها واستمراء واستشراء وإغراء فتنتكس الشعوب.. هكذا كتبتت نعمات فؤاد، نصا وحرفا، فى كتابها القيم «صناعة الجهل».
تركت نعمات أحمد فؤاد إرثا غاليا وباقيا.. من أشهر كتبها تلك الدراسات الأدبية المبكرة التى كتبتها عن شعراء الرومانسية العربية فى عصرها الذهبى؛ «شعراء ثلاثة ــ إبراهيم ناجى وأبو القاسم الشابى والأخطل الصغير»، وكتابها عن «الشاعر ناجى»، و«أحمد رامى». كما تركت أيضا عددا من الكتب التى تؤرخ فيها لأعلام عصرها؛ مثل كتاب «المازنى» فى سلسلة أعلام العرب، وكتابها الآخر عنه بعنوان «أدب المازنى»، فضلا عن كتابها الصغير الممتع الذى صدر عن سلسلة (اقرأ) بدار المعارف بعنوان «الجمال والحرية والشخصية الإنسانية فى أدب العقاد»، وهو من الكتب الممتازة التى تقدم مفاتيح لقراءة إنتاج الكاتب الكبير. ولم يقتصر إسهامها فى الجانب الأكاديمى وحده، بل تجاوزته إلى المجال العام، وعرفت بمواقفها الشجاعة الرائدة فى الدفاع عن تاريخ وآثار مصر، وتصدت وحدها لمخططات كادت تؤدى إلى خسارات رهيبة فى منطقة هضبة الأهرامات، ومنطقة الحسين الفاطمية.
رحم الله الراحلة نعمات أحمد فؤاد وأسكنها فسيح جناته.