سوبر إسبرطة الجديدة

يحيى عبد الله
يحيى عبد الله

آخر تحديث: الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

 

قال مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية أمام منتدى «المحاسب العام» بوزارة المالية الإسرائيلية فى 15 سبتمبر 2025م، مستشعرًا العزلة السياسية، التى بدأت توجعه، رغم محدوديتها، حتى الآن: «إسرائيل تدخل فى عزلة سياسية، سنضطر إلى مواجهة ذلك باتباع سياسة الاقتصاد المستغنى.. من الممكن أن نجد أنفسنا فى وضع تُحاصَر فيه صناعتنا للسلاح، وسنضطر إلى أن نكون أثينا وسوبر إسبرطة، وإلى أن نتأقلم مع اقتصاد مكتف بذاته. لا خيار أمامنا. سنضطر فى السنوات المقبلة على الأقل إلى مواجهة هذه المحاولات لعزلنا، وقبل كل شىء سنضطر إلى تطوير قدراتنا لمواجهة أنفسنا».

الاقتصاد المستغنى، يعنى إدارة الظهر للعالم كله، أما تركيزه على صناعة الأسلحة، دون غيرها من الصناعات، فإنه يتسق مع الروح القتالية لـ«إسبرطة»، التى يتخذها مثالًا، مثلما يتسق مع ما قاله قبل عام من أن إسرائيل «ستحارب بأسنانها وأظافرها»، بعد تهديد إدارة بايدن بحجب بعض الذخائر عنها. لم يكن «خطاب إسبرطة»، كما أسمته الصحافة الإسرائيلية، زلة لسان بائسة، ولا صياغة فظة، وإنما مسار مدروس، ومخطط، بحسب، صوفيا رون موريا، للهروب من الاستحقاق الانتخابى المقبل، والالتفاف على الناخب الإسرائيلى غير الراغب فى استمرار حكمه؛ وهو ما يتفق معه، بن كسبيت، الذى يشير إلى أن نتنياهو «لم يعد يصلح للمنصب الرفيع الذى يشغله ولا لأى شىء آخر».

يرى، دان بيرى، أن نتنياهو، بهذا الخطاب، يستخف بالإسرائيليين، ولا يضع فى حساباته سوى جمهورين اثنين فقط: الأول، هو «القاعدة الانتخابية المحلية، ممثلة فى اليمين المتطرف والأحزاب الحريدية، التى تضمن له البقاء فى الحكم؛ والثانى، هو أمريكا دونالد ترامب، التى تضع مصالحها فى المقدمة. كل ما عدا ذلك، من معارضة، ونخب، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية الواسعة، ويهود الخارج، والاقتصاد العالمى، يمكن التضحية به فى نظره».

لم يستدع، بنيامين نتنياهو، النموذج الإسبرطى، بخاصة، هكذا اعتباطًا. هو يعى ما يقول. فثم أوجه شبه كثيرة بين إسرائيل، المتعسكرة، التى تقتات على الحروب، واحتلال أراضى الغير، وقمعهم، منذ إقامتها، وتفرض تجنيدًا إجباريًا على كل فرد من أفراد المجتمع، بمن فى ذلك النساء. باستثناء الحريديين، الذين يوفرون الأيديولوجية التوراتية. التلمودية للقتال والقتل. وإسبرطة، "منعدمة الثقافة، التى تنتزع الأطفال من أسرهم فى سن السابعة، كما يقول دان بيرى، وتحولهم إلى جنود، ولم تسهم بشيء ذى قيمة من أجل الإنسانية".

• • •

من أوجه الشبه، الأخرى، بين النموذجين، الإسرائيلى والإسبرطى، ما يشير إليه البروفيسور، أرييه إلداد، من عناد، وغطرسة، وتحدٍ، ودخول فى معارك مع الإمبراطوريات الكبرى: "كان الإسبرطيون عنيدين، فرضوا التعليم العسكرى الإجبارى، وتباهوا بأنهم ليس لديهم أسوار تحميهم لأنه لا يوجد عدو يجرؤ على استفزازهم ووطء أرضهم. حاربوا الإمبراطورية الفارسية الأكبر منهم عشرات المرات".

كشفت رؤية نتنياهو بشأن إسبرطة عن التغيير العميق الذى أحدثه السابع من أكتوبر. "طوفان الأقصى" لديه. فقد عُرف عنه، فى الأوساط الإسرائيلية، قبل "الطوفان"، أنه زعيمٌ متردد، ومحافظ من الناحية العسكرية، يؤيد سياسة الاحتواء، فى الأغلب الأعم، قبل الدخول فى مواجهة عسكرية. أما الآن فهو يقدم نفسه للجمهور الإسرائيلى فى صورة نقيضة: صورة المقاتل، المبادر، العنيد، إلى ما لا نهاية، حتى "النصر المطلق"، بحسب تعبيره، الذى لن يتحقق أبدًا. وهذا، فى واقع الأمر، الاتجاه الذى يتبناه ائتلافه الحاكم فى العامين الأخيرين. وقد عبَّر، أمير إيتنجر، عن ذلك بقوله: "لقد خربت أثينا فى السابع من أكتوبر خلال نوبتهم، وهم الآن يعيدون بناء إسبرطة. سوبر إسبرطة".

• • •

واجهت الرؤية التى طرحها نتنياهو، رؤية الاستغناء والاستقواء، الاستغناء عن العالم، حتى ولو بشكل جزئى، من خلال تحقيق اكتفاء ذاتى، واقتصاد منغلق، والاستقواء المتواصل، والعيش على حد السيف والحروب المتواصلة. انتقادات شديدة، إذ رأى، عيران شاليف، أستاذ التاريخ الأمريكى بجامعة حيفا، أنها "غير واقعية ومخيفة، وخطيرة"، مشيرًا إلى أنه لا توجد فى العالم اليوم "دولة جزيرة، ولا توجد منتجات متقدمة يمكن إنتاجها من الألف إلى الياء فى دولة واحدة".

من ناحية أخرى، ترتبط إسرائيل ارتباطًا تامًا باستيراد المعادن والسبائك المعدنية المطلوبة لإنتاج الأسلحة، مثل فوهات الأسلحة، والتليسكوبات، ووسائل الرؤية الليلية التى تعتمد على مواد خام وقدرات إنتاج خاصة، فضلًا عن رقائق الحواسيب المرفقة بها. ورأى، دان بيرى، أنها رؤية كابوسية للاقتصاد والأمن، وبمثابة انتحار جماعى ولعب بالنار: «إن حلم سوبر إسبرطة مستغنية توفر احتياجات نفسها، لا يمكن أن يتحقق. إنه كابوس. معنى أن تكون سوبر إسبرطة فى الشرق الأوسط هو أن تحطم الاقتصاد، والأمن. الأمر يتعلق بانتحار جماعى على أقل تقدير. إذا كان نتنياهو يعنى ما يقول، فإنه يلعب بالنار»؛ كما رأى أنها تصب فى مصلحة الفلسطينيين: «إذا استجابت إسرائيل إلى دعوة نتنياهو للتحول إلى «سوبر إسبرطة»، فالنتائج واضحة. ستهمل أوروبا إسرائيل، وسيدير العالم المتطور ظهره لها وسيقف مع الفلسطينيين فى كل ساحة، وسيعتزلها يهود أمريكا. الذين كانوا ذات يوم شريان حياة لإسرائيل فى واشنطن. وستفقد إسرائيل ليس الحزب الديمقراطى فقط، وإنما ستشهد تآكلًا أيضًا فى صفوف الجمهوريين، الذين يتمسك نصفهم بالانعزال ويرون فى إسرائيل ورطة أجنبية زائدة.

رأت، صوفيا رون موريا، أن نتنياهو، عندما ألقى خطاب إسبرطة، «تخلى عن السردية الصهيونية فى مجملها، لكنه نمَّى. دون أن يقول ذلك صراحة. أسطورة الخراب. أسطورة الأمة التى تتحصن على قمة جبل متسادا فيما العالم كله ضدها»، مشيرة إلى أن ذلك يكرس الدكتاتورية: «فى القلعة المحاصرة لا تجرى انتخابات، وإذا جرت، فمن ذا الذى يصوت ضد الزعيم الذى يقف ببسالة فى مواجهة العالم المعادى للسامية؟». كيف ستكون علاقة سوبر إسبرطة، التى يبشر بها نتنياهو، بالفلسطينيين؟ هل سيكونون عبيدًا بها؟ وكيف ستكون علاقتها إزاء جيرانها من العرب، ومن غير العرب؟ هل سيتم التعامل معهم، طبقًا لمبدأ «فخ توكيديديس». على اسم المؤرخ الذى أرَّخ للحرب بين إسبرطة وأثينا. وتهاجم كل دولة عربية، وغير عربية، تخوفًا من أن تستقوى أكثر من اللازم، بحيث لا يمكن التصدى لها بعد ذلك، مثلما فعلت، مؤخرًا فى قطر، بعد أن هاجمت، قبل ذلك، غزة، ولبنان، وسوريا، والعراق، وإيران، واليمن؟ أو كما يقول شموئيل روزنير: «هل إسرائيل هى إسبرطة التى تهاجم جيرانها قبل أن يستقووا أكثر من اللازم أم ربما يضطر الجيران للنظر فى إمكانية أن تتصرف إسرائيل باستقواء منفلت، ولا مفر أمامهم من تقليم أظافرها، خشية أن تتحول إلى لاعب إقليمى خطر للغاية، وقوى للغاية؟».

• • •

تتعارض رؤية إسبرطة مع المبادئ التى توجه نتنياهو وائتلافه الحاكم، ومن بينها، قضية إطلاق سراح الأسرى. ففى الوقت الذى اهتمت فيه سائر مدن الدولة فى اليونان القديمة بإطلاق سراح المقاتلين والمواطنين الذين وقعوا فى الأسر، أبى الإسبرطيون، كما تقول، صوفيا رون موريا، إجراء مفاوضات من أجل إطلاق سراح الأسرى.

يقول المؤرخ اليونانى، بلوترخوس، إن كل من عاد من الأسر قوطع وسمى «طراسنت». جبان رعديد، وسلب منه شرف المواطنة. أبى الإسبرطيون إجراء مفاوضات لإطلاق سراح الأسرى. الخط الذى يقوده نتنياهو فيما يتعلق بالمخطوفين هو خط رجال إسبرطة: من وقع فى الأسر، فإن دولته ليست ملزمة به على الإطلاق. ومن المعروف أن نتنياهو أفشل صفقات عديدة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، أو كما يقول، ليئور بن عمى، «الحقيقة المحزنة هى أن نتنياهو يستخدم المخطوفين من أجل الإبقاء على الحرب مستمرة. إن ملك سوبر إسبرطة عار. والجميع فى مملكته مجرد بيادق. كلهم يرون ويصرخون. وهو فيما هو فيه». الأمر، نفسه، ينطبق على موقف نتنياهو من استمرار الحرب، إذ يرى، دان بيرى، أن المحطة القادمة لتحقيق رؤية إسبرطة تتمثل فى «غزو مدينة غزة، غزوًا عسكريًا، كاملًا وإقامة حكم عسكرى بالقطاع، مع ما سيترتب عليه من حرب عصابات دامية لسنوات عديدة، مع موت مخطوفين فى الأسر ومقتل جنود فى كمائن، ودفع ثمن أخلاقى لا يُتصور، وخضوع لضغط مستمر من جانب اليمين للاستيطان فى القطاع».

• • •

ثمة أمر آخر، يتطلع إليه، نتنياهو، من خلال طرح هذه الرؤية الإسبرطية. هو يريد دخول الانتخابات القادمة بجدول أعمال إسبرطى، سياسى أمنى، كما يقول أمير إيتنجر، بمعنى، أنه «سيقترح المزيد والمزيد من التصفيات (الاغتيالات) فى دول بعيدة، واستمرار تغيير الشرق الأوسط مثلما اعتاد أن يشير مرارًا وتكرارًا، وسيكرر، صباح مساء، أنه هو فقط أثبت نجاحًا فى مواجهة رأس الأفعى الإيرانية وسينتقص من قدرات خصومه من كتلة المعارضة على مواجهة الضغوط الدولية ومواجهة أعدائنا الكثيرين».

ختامًا، يجب أن يأخذ المعنيون فى المنطقة كلام نتنياهو عن سوبر إسبرطة، التى تؤدب الجيران، طول الوقت، وتقلم أظافرهم، على محمل الجد. الأمر الأخطر فى رؤية سوبر إسبرطة ليس الاستقواء وحده، وإنما التسلح بأيديولوجية تبرر لهذا الاستقواء، وتغذيه طوال الوقت.

 

أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved