ماذا يقول العلم عن المستقبل؟
سامح مرقص
آخر تحديث:
الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
العلم ليس صحيحًا تمامًا فى أى وقت، ولكنه نادرًا ما يكون خاطئًا تمامًا، وعادةً فرص صوابه أكبر من النظريات غير علمية. لذا، من المنطقى قبوله افتراضيًا.
برتراند راسل، تطورى الفلسفى (1959)
يقدم هذا المقال نظرة سريعة على المستقبل وفقا للعلم، ويناقش تطور تقنيات علوم الكمبيوتر، والذكاء الاصطناعى، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية التى ستحدد مصيرنا خلال الخمسين عامًا المقبلة، دون الخوض فى الطب المستقبلى الذى تحدثت عنه فى مقالى السابق فى صحيفة الشروق.
إن مفتاح المستقبل يكمن فى فهم قوانين وتفسيرات العلم فى مختلف المجالات، وأصبح لدينا -الآن- فهم قوى لقوانين الطبيعة ونظرية الكم التى تسمح لنا بكشف أسرار الكون، كما أدى التقدم الهائل فى قدرات الكمبيوتر إلى ثورة مذهلة فى التكنولوجيا الحيوية والقدرة على دراسة تسلسل الحمض النووى فى جينوم الكائنات الحية بسرعة وسهولة.
قبل طرح التطورات المستقبلية من الضرورى توضيح ما هو المنهج العلمى، ووفقا للمفكر التنويرى الدكتور خالد منتصر، هو ماراثون طويل يحتاج إلى النفس الطويل وسنوات وسنوات من البحث المنضبط. وتكمن قوة العلم فى مصداقيته وتقبله للنقد، لأن هدفه الأساسى هو الوصول إلى الحقيقة، وكل شىء فى العلم قابل للنقاش والاختبار، ولا يوجد رأى فى العلم فوق النقد، ولا فكرة مقدسة صالحة للأبد. ويجب تقديم المعلومات العلمية بلغة لا تحتمل التأويل والتخيلات. يرى الفيلسوف كارل بوبر فى كتاباته عن فلسفة العلم، أن العلم يقوم على صياغة فرضيات جريئة نختبرها بالتجارب. فإذا صمدت، ازداد قبولها، وإذا انهارت، استبدلناها، ومعيار العلم ليس «قابلية التحقق» بل «قابلية التكذيب». لذلك تعتبر بعض النظريات غير علمية لأنها لا يمكن اختبارها، مثل علم التنجيم أو التحليل النفسى الفرويدى، والتى تقدم تفسيرات لا يمكن دحضها.
• • •
نبدأ بعرض أحدث التطورات فى علم الكون، يعتقد العلماء حاليًا أننا نعيش فى كون به فضاء فائق الأبعاد مكون من أحد عشر بُعدًا، وهو مفهوم نظرى مستوحى من نظرية الأوتار، وأن الثقوب السوداء هى بوابات إلى الأكوان المتعددة.
قدم تلسكوب جيمس ويب الذى أرسل إلى الفضاء يوم 25 ديسمبر2021، ثروة من المعلومات الجديدة، بما فى ذلك اكتشاف بخار الماء على كوكب صخرى خارج النظام الشمسى، ما يزيد من احتمال وجود حياة على هذا الكوكب، واكتشاف مجرات يزيد عمرها عن 13.5 مليار سنة، ما يفتح الباب أمام احتمال أن يكون عمر الكون أكثر من 13.8 مليار عام. يعتقد بعض العلماء أن الانفجار العظيم لم يُنشئ كوننا فحسب، بل كونًا مضادًا أيضًا، يتكون من المادة المضادة ويدور فى عكس الزمن. هناك أيضًا احتمال وجود أكوان متعددة، ولكن لا توجد حاليًا طريقة لرصد أكوان أخرى.
وهكذا فإن طبيعة الكون وما كان موجودًا قبل الانفجار العظيم، إن وجد، يبقى مجهولاً، ولا تزال الأبحاث مستمرة لفهم هذا الكون الواسع.
ربما بعد مائة عام، سوف تكون أجهزة الكمبيوتر الكمومية قادرة على قراءة أفكارنا وتحقيق رغباتنا، وسوف نكون قادرين على تحريك الأشياء بواسطة الفكر وحده. وستكون التكنولوجيا الحيوية المستقبلية قادرة على تخليق أجسام بشرية مثالية وإطالة عمر الإنسان. وبفضل تقنية النانو، سنتمكن من إنشاء مواد وأجهزة جديدة ذات تطبيقات متنوعة.
هناك تطورات حديثة تهدف إلى إبطاء الشيخوخة أو منعها، مثل الأبحاث المتعلقة بالتيلوميرات، وهى منطقة فى نهاية الكروموسوم ــ الكروموسوم هو حزمة من الحمض النووى تحتوى على جينات ــ تقصر مع كل انقسام خلوى، وعندما تصبح قصيرة جدًا، تتوقف الخلايا عن الانقسام وتدخل فى حالة من «الشيخوخة الخلوية». تركز الأبحاث الجديدة على كيفية الحفاظ على طول التيلوميرات، أو حتى زيادتها، لإبطاء عملية الشيخوخة. ولعل تقنية التجميد البيولوجى، التى تحفظ أجساد البشر فى درجات حرارة منخفضة للغاية بعد الموت، تعطى الأمل فى إحياء جسد الإنسان فى المستقبل عندما تتقدم التكنولوجيا الطبية.
• • •
تهدف التطورات المستقبلية فى مجال المواصلات فى المقام الأول إلى استخدام الطاقة النظيفة لحماية الغلاف الجوى من التلوث، والحد من الاحتباس الحرارى، وتوفير وسائل نقل سريعة وآمنة، وتجنب الازدحام المرورى والمخاطر المحتملة فى جميع وسائل النقل، وإدارة النقل بكفاءة لحماية المواطنين وتقليل أى صعوبات قد يواجهها المسافرون. والتطورات الحديثة فى صناعة السيارات بعد انتشار إنتاج السيارات الكهربائية هو إنتاج السيارات الذكية ذاتية القيادة، وسيارات الرفع المغناطيسى، التى تتطلب طرقًا مجهزة بمجال مغناطيسى قوى للدفع والرفع. كما ستوفر تقنيات النقل الحديثة السيارات الطائرة ذاتية القيادة، تطير بدون وقود تقريبًا، وتسبح بسلاسة فى الهواء.
من الأهداف المستقبلية «السفر إلى المريخ» وقد تستغرق الرحلة من 6 إلى 9 أشهر.
لكن هناك تحديات هائلة، بما فى ذلك أوقات السفر الطويلة، وظروف المعيشة غير المناسبة للبشر بسبب الإشعاعات القاتلة، ودرجات الحرارة المرتفعة للغاية، والجو غير القابل للتنفس والمكون فى معظمه من ثانى أكسيد الكربون. ومع ذلك، هناك العديد من المزايا التى تجعل المريخ خيارًا عمليًا للاستيطان البشرى. فاليوم المريخى مشابه ليوم الأرض الزمنى، وجاذبيته تُعادل حوالى 38% من جاذبية الأرض، مما يُقلل من المخاطر الصحية المرتبطة بانعدام الجاذبية. ويحتوى سطحه على موارد قيّمة، مثل المعادن والعناصر النادرة. قد يُسهم استيطان المريخ فى تخفيف الضغط السكانى على الأرض. كما يُمكن استخدامه كميناء فضائى للبعثات إلى الأجرام السماوية البعيدة. ويمكن إعادة تأهيل المريخ لتوفير بيئة تُشبه بيئة الأرض. بات واضحًا بشكل متزايد ومع استمرار التقدم التكنولوجى، يقترب حلم العيش على المريخ من أن يصبح حقيقة.
يُعد الاحتباس الحرارى من أهم مشاكل المستقبل، ويجب احتواؤه قبل أن يُهدد استمرارية الحياة على كوكب الأرض. تتضمن الحلول، بالإضافة إلى استخدام الطاقة النظيفة مثل الهيدروجين الأخضر والقوة المغناطيسية، إطلاق الصواريخ إلى الغلاف الجوى العلوى، حيث ستطلق مواد كيميائية مثل ثانى أكسيد الكبريت، لتعكس ضوء الشمس إلى الفضاء، مما يؤدى إلى تبريد الأرض. لكن هناك شكا فى إمكانية حل هذه المشكلة بهذه الطريقة. هناك اقتراح آخر يتمثل فى إطلاق مواد كيميائية فى المحيط، مما قد يؤدى إلى زيادة كمية الطحالب التى يمكنها امتصاص ثانى أكسيد الكربون. ومن المقترحات الأخرى استخدام الهندسة الوراثية لإنتاج كائنات حية قادرة على امتصاص كميات كبيرة من ثانى أكسيد الكربون وتحويله إلى مواد مفيدة مثل الغاز الطبيعى -غاز قابل للاشتعال، عبارة عن خليط من مركبات الهيدروكربون البسيطة-، فضلًا عن إنتاج أنواع معدلة وراثيًا من الأشجار سريعة النمو والتى تمتص ثانى أكسيد الكربون. ومن المتوقع أن تشمل التكنولوجيا الحديثة فى العقود القليلة القادمة استخدام اندماج نوى الهيدروجين لإنتاج طاقة هائلة.
• • •
تفتح الاختراعات المستقبلية آفاقا غير مسبوقة فى مختلف مجالات الحياة. وسيقدم الذكاء الاصطناعى خدمات واسعة فى الطب والتعليم والصناعة. ستتميز المدن الذكية بأجهزة مترابطة تراقب الصحة وإدارة الطاقة، وتوفر رؤى دقيقة للشركات والحكومات، والبنية التحتية الرقمية لإدارة حركة المرور واستخدام الطاقة، والطرق الحديثة للتخلص من النفايات بشكل آمن وفعال.
مع ذلك، يحمل كل تقدم علمى مخاطر محتملة تتطلب يقظة مجتمعية وتشريعية. قد يتسبب الذكاء الاصطناعى فى فقدان الوظائف، وقد يؤدى استخدام الروبوتات الذكية إلى وقوع حوادث غير متوقعة، وقد نفقد التفاعل الإنسانى الحقيقى بسبب الإدمان الرقمي. وهناك أيضًا مخاوف بشأن التلاعب الجيني، والتمييز الجينى باستخدام العلاجات الجينية، وقلق بشأن احتكار القوة الكمبيوترية، وهيمنة الشركات الكبرى، وانتهاكات الخصوصية، والافتقار إلى الوضوح بشأن من يتحكم فى البيانات والشفافية والمساءلة.
تتطلب مواجهة هذه المخاطر تشريعات استباقية تواكب وتيرة التطور وتحمى حقوق الأفراد، وتعليمًا أخلاقيًا يدمج القيم الإنسانية فى التعليم العلمى، ورقابة مجتمعية تضمن مشاركة المواطنين فى صنع القرار، ومساءلة تفرض معايير واضحة على الشركات والمؤسسات العلمية.
فى الختام، مع التقدم التكنولوجى تزداد مسئوليتنا الأخلاقية وكيف نوجه هذا التقدم لخدمة البشرية، وكيف نضمن أن يظل العلم أداة للتقدم، لا وسيلة للهيمنة؟ ويجب أن يُقاس مستقبل العلم بكيفية توظيفه. لذلك، ينبغى أن يقترن تطورنا العلمى بالحكمة والعدل والرحمة، حتى نصنع عالمًا يتقدم ليس فقط فى أدواته، بل فى قيمه أيضًا.
أستاذ الأشعة التشخيصية السابق بجامعة شفيلد، إنجلترا