لحظة تاريخية مناسبة لفكر جديد
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 7 نوفمبر 2019 - 10:45 ص
بتوقيت القاهرة
نحن فى محطة تاريخية عربية قابلة للصعود العظيم المذهل أو السقوط المأساوى المذل.
ما يميز هذه المحطة التى يعيشها الوطن العربى منذ عشر سنوات، والذى لم ير تاريخه الحديث مثل تألق الإمكانيات الهائلة الحالية لحدوث تغيرات كبرى فى حياة العرب، ومثل الاستعداد الواعى المجتمعى لدى ملايين العرب لقبول أفكار عقلانية ذاتية تجددية وممارسة سلوكيات حياتية عصرية.
لحظة المنعطف التاريخى الحالية، إذن، هى فرصة للمفكرين التجديديين والمثقفّين الملتزمين العرب لطرح ما كان يصعب طرحه فى الماضى بسبب ممانعة ورفض الكثيرين من أفراد الأمة سابقا لمثل تلك الأطروحات، إما لأسباب دينية متوهمة، أو بسبب التمسك بمسلّمات متخلفة قديمة عفى عليها الزمن، أو بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن الانغماس فى الحاضر يغنى عن الأهمية الكبرى لتفكيك ونقد وتجاوز كل ما فى الماضى من تراث متخلف أو تراث بدائى، إن كان قد صلح لزمانه فإنه ما عاد صالحا لأزمنة الحاضر المعقدة.
المشهد إذن مهيّأ. فالبربرية الجهادية التكفيرية التى مارستها القاعدة وبناتها، تحت شتى المسميات، من قطع للرءوس، وحرق الأجساد، وسبى للنساء وغزو تدميرى للمدن، واستباحة لأتباع الديانات الأخرى، أقنع الملايين من جماهير العرب بأن التراث الفقهى الذى اعتمدت عليه تلك البربرية الجهادية التكفيرية لتبرير أفعالها وحماقاتها يحتاج بالفعل لمراجعة جذرية تفكيكية نقدية تبرز نقاط ضعفه، وملابساته التاريخية، وتزمُّت أصحابه غير المبرر، وكونه ليس أكثر من اجتهادات بشرية قابلة للقبول أو الرفض.
وقبول الملايين لتلك المراجعة سيكون أقوى وأكثر انتشارا إذا تمت مراجعة التراث المتخلف المتزمت ذاك من خلال إبراز التراث المستنير العقلانى. فهناك تراث تنويرى عقلانى قادر على الرد على تراث ظلامى، وهناك ابن رشد قادر على أن يحاجج ابن تيمية مثلا، وهناك محمد عبده قادر على أن يرد على المودودى. هذا مدخل كبير واعد يحتاج إلى كتلة تاريخية من المفكرين والمثقفين العرب ليقوموا به.
وبالطبع لن يكون الرد على التراث بالتراث فقط، وإنما ستسنده وتغنيه منظومة هائلة من مدارس فلسفية وعلوم اجتماعية حديثة تحتاج إلى إيصالها إلى أذهان الملايين من العرب المتعطشين الآن لقراءة وسماع منظومة فهم دينى إسلامى جديد، تسقط كل ما فى تراث الماضى من نواقص أو سوء فهم أو دس أو استعمال انتهازى ليحل محله دين العدالة والقسط والميزان والتراحم والتسامح والأخوة الإنسانية والعدالة الاجتماعية الذى بشر به نبيه الثورى العظيم.
الأمر نفسه ينطبق على اقتناع الملايين من جماهير العرب بأن الروابط القبلية والعشائرية والجهوية والعرقية، التى استعملها الفاسدون والناهبون عبر العصور ليغطوا على امتيازاتهم وهيمنتهم على مصادر القوة والثروة والجاه، هى التى وراء أنظمة سياسية متخلفة، قامت على المحاصصات الطائفية والقبلية والجهوية، وذلك على حساب معيشتهم وكرامتهم الإنسانية.
يسمع الإنسان كلمات التبرؤ من تلك الروابط فى السياسة والدين والاقتصاد من خلال أفواه الشباب الثائرين المرابطين فى ساحات وشوارع شتى مدن العرب. إنها كلمات قطيعة حقيقية صادقة مع إرث مريض، أغمض عيونهم ودجن عقولهم عبر العصور، وكان غطاء لتبرير جوعهم وعريهم وقلة حيلتهم.
إضافة لكل تلك المهمات المناطة بالمفكرين والمثقفين العرب، والتى أصبحت أسهل وأمضى فى ظل ظروف التغيرات الذهنية والنفسية الحالية المتعاظمة، سنحتاج إلى كتلة مؤرخين تقوم بتبيان تجارب الآخرين فى مواجهة أوضاع مشابهة لأوضاعنا. فعلى سبيل المثال هناك التجربة الأوروبية فى التعامل مع الصراعات الدينية والمذهبية التى اجتاحت أوروبا إبان العصور الوسطى، والتى أكلت الأخضر واليابس فى طول وعرض أوروبا القرون الوسطى.
إن فى خروج أوروبا من تلك المحن دروسا وعبر يمكن تبنى الإيجابى منها وتجنب السلبى، هذا إذا كانت الدراسة موضوعية وعقلانية ومتوازنة وغير تقليدية عمياء.
فهم مثل تلك التجارب، فى الغرب والشرق على السواء، يحتاج أن يكون رافعة فى جهود إحداث التغييرات الكبرى فى الحياة العربية، جهود متناغمة ومتساندة ومتفاعلة.
الملايين مهيّأة، فهل القلة المفكرة المثقفة الملتزمة المطلوبة مهيأة هى الأخرى؟ إنها فرصة تاريخية، وستكون كارثة لو أنها ضاعت، خصوصا إذا اعتقدت الأكثرية الجماهيرية والأقلية المفكرة بأن التغييرات السياسية وحدها كافية، وأهملت التغييرات الفكرية والثقافية الضرورية المطلوبة.
مسيرة التاريخ لن تنتظر المترددين والخائفين، واللحظة الحالية هى لحظة وخطوة فى تلك المسيرة.
مفكر عربى من البحرين