الرسالة المحمدية: نقلة نوعية لم يستوعبها المسلمون حتى الآن!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الخميس 7 نوفمبر 2019 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
فى تاريخ البشرية توجد محطات، ومن محطة إلى أخرى يَحدث للإنسان نقلة نوعية، تنقله من مرحلة فكرية إلى أخرى أعلى، وتقوده إلى عالم جديد من المعرفة، كانت أول نقلة نوعية فى تاريخ البشرية، وتعلم منها الإنسان ما لم يكن معلوما لديه، هى كيف يدفن الإنسان جثة أخيه الإنسان!
عندما قتل قابيل أخاه هابيل ــ أول حادثة موت فى تاريخ البشرية ــ لم يكن آدم على علم بها وبتبعاتها، لأن الجنة التى طُرد منها، كانت الحياة فيها أبدية، ليس فيها موت، ولا قتل، فأرسل الله لآدم ولأبنائه غُرابا ليعلمهم كيف يدفن جثة هابيل: «فَبَعَثَ اللَهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ»!
حمل هذا الأمر رسالتين: الأولى، أن يتعلم الإنسان كيف يدفن الجثة، والثانية، أن يَعىَ أنه ليس سيد الأرض وحده، وإنما هناك نُظم ومخلوقات لها أهميتها لابد من الحفاظ عليها، لأنه سيتعلم منها الكثير، فعدم الحفاظ على البيئة بكل مكوناتها هو إخلال بقوانين الحياة، يؤدى إلى نهايتها، بدءا من ظهور أمراض خبيثة، إلى الإخلال بتوازن الطبيعة، مثل ثُقب الأوزون، وانقراض بعض الحيوانات، ومشاكل المناخ التى يحاول الإنسان معالجتها لأنه أساء استخدام نعم الله له!
وما زال الإنسان يستلهم إبداعات كثيرة من الطيور والحيوانات والحشرات، فالطائرات كلها على شكل الطيور، والسيارات تقاس سرعاتها بقوة سرعة الحصان، وفى الأسلحة المتطورة، وضعت شركة IBM نموذج حشرة اليعسوب على إحدى أنظمة الحاسوب، وتم تنفيذ ألفَى طريقة أداء عليها، فى ضوء المناورات التى تقوم بها هذه الحشرة فى الهواء، وهكذا تم بناء نموذج سيكورسكى للطائرات الحربية، ولطائرات النقل على غرار نموذج اليعسوب... إلخ!
وتأتى النقلة النوعية الثانية للإنسان عند اكتشافه للنار، من خلال الظواهر الطبيعية: البراكين، وحرائق الغابات بسبب البرق، فهى تعتبر مثل اكتشاف الكهرباء فى العصر الحديث، فمن النار تعلم الإنسان الطهى، والدفء، وحمايته من الحيوانات المتوحشة، ولهذا عظَمها وعبدها! هكذا كانت الطبيعة بكل مكوناتها المُعلم الأول للإنسان.
***
كان درس الغراب للإنسان، والتعلم من الظواهر الطبيعية، أول نقلتين فى تاريخ البشرية، تبعتهما نقلات أخرى، ولكنها جاءت بطريقة مختلفة، فبدلا من رسائل تأتى من مخلوقات، وظواهر طبيعية، أصبحت تأتى من أفراد يوحى إليهم، وهم الأنبياء والرسل، لقد كانت الرسالات الإلهية كل منها نقلة نوعية فى صندوق المعرفة لدى الإنسان.
وتُعد رسالة النبى إدريس، نقلة نوعية ثالثة، فقد علمنا الكتابة، وأول من أمسك بقلم، وبالتالى تعلَمنا القراءة، وكانت الحروف عبارة عن صور لكائنات موجودة على الأرض، كما نراها فى بعض نقوش كهوف «لاسكو» فى فرنسا، و«التميرا» فى إسبانيا، ثم تحولت الصور إلى رموز صوتية، كانت خطوة أساسية فى نشوء الأبجدية، وفى تطور الكتابة فيما بعد، وبهذا حفظ الإنسان إنتاجه الفكرى، وميراثه الثقافى والعلمى من الاندثار، وهكذا بدأ التراكم المعرفى واستخدام العقل، أكبر منحة إلهية، ميَزت الإنسان عن كل المخلوقات الأخرى.
ثم يتوالى الرسل والأنبياء ليُعَلِموا الإنسان عقيدة التوحيد التى كثيرا ما انحرف عنها، هكذا حكى القرآن عن إبراهيم، عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَخِذُ أَصْنَاما آلِهَة إِنِى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَٰلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَا جَنَ عَلَيْهِ اللَيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبا قَالَ هَٰذَا رَبِى فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُ الْآفِلِينَ، فَلَمَا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغا قَالَ هَٰذَا رَبِى فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِنِى رَبِى لَأَكُونَنَ مِنَ الْقَوْمِ الضَالِينَ، فَلَمَا رَأَى الشَمْسَ بَازِغَة قَالَ هَٰذَا رَبِى هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِى بَرِىءٌ مِمَا تُشْرِكُونَ، إِنِى وَجَهْتُ وَجْهِىَ لِلَذِى فَطَرَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
وتنتهى الرسالات السماوية الكبرى ــ التى دعت للتوحيد ــ بثلاثة أنبياء، موسى وعيسى ومحمد ــ عليهم صلوات الله ــ كانت لموسى معجزتان: الأولى عصاه التى كانت تلقف ثعابين سحرة فرعون، والتى شق بها أيضا البحر، والثانية يده يُدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء؛ وأما عيسى ــ المسيح عليه السلام ــ فقد امتلأت حياته بالمعجزات، فكلم الناس وهو فى المهد، وكان يَخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، ويُداوى الأعمى والأبرص ويُحيى الموتى بإذن الله، ولكن لم يؤمن به سوى بسطاء قومه، ومن بعده عاد الناس للشرك، فكانت الرسالة الخاتمة بخاتم الأنبياء محمد عليه والسلام.
***
اختلفت الرسالة المحمدية عن كل سابقاتها، واعتبرت نقلة نوعية، لأنها لم تعتمد على معجزات حسِية أو مادية كسابقات، ولكن الله ميَزها بمعجزة عقلية، إنه كتاب الله ــ القرآن الكريم ــ وتعتبر مكوناته الأساسية دعوة الإنسان للتوحيد بالله؛ وإخبار الإنسان بتجارب الماضى، فيستوحى منها ما ينفعه، ويبتعد عما يضره أو يفسد طبيعته، كما فى قصة قوم لوط الذين كانوا يأتون الرجال من دون النساء؛ وتعليم الإنسان حرية التعبير واحترام الآخر، كما جاءنا فى حوار الملائكة وإبليس مع الله بشأن خلق آدم؛ واحترام عقائد وديانات الآخرين «لكم دينكم ولى دين»؛ فضلا عن أحكام الزواج والميراث، وما دون ذلك فقد تركه الله للإنسان يتدبره بعقله وبحكمته.
هذا بجانب نصائح أخلاقية وسلوكية عامة، كما فى قوله: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا، (...) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَاكُمْ إِنَ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِنَا إِنَهُ كَانَ فَاحِشَة وَسَاءَ سَبِيلا، وَلَا تَقْتُلُوا النَفْسَ الَتِى حَرَمَ اللَهُ إِلَا بِالْحَقِ، (...)، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَا بِالَتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَىٰ يَبْلُغَ أَشُدَهُ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَ السَمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا، وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحا إِنَكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا، كُلُ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِئُهُ عِندَ رَبِكَ مَكْرُوها» (الإسراء 29ــ38).
***
هكذا تُبين الكتب السماوية حدود الخير والشر، ثم تتركهم لأنفسهم، فمن عمل خيرا فلنفسه، ومن أساء فعليها، فقد جعل الله المسئولية والجزاء قيمتين نمارس حياتنا على أساس منهما، فالمسئولية تعنى تحمل الإنسان تبعة أقواله وأفعاله، والجزاء يعنى القضاء بالعدل فيما يخص الأقوال والأعمال، وموقف القرآن الكريم من المسئولية يخلص فى قاعدتين:
الأولى، «لا مسئولية بدون حرية»، والثانية، «لا حرية بدون مسئولية».
وتأسيسا على القاعدة الأولى، قضى الله بأن المضطر يُعفَى من المسئولية، لأنه ليس حُرا، وبالتالى غير مُخير: «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه»، وعليه استند الفقهاء على قاعدتهم «الضرورات تبيح المحظورات»؛ وأما الثانية: «لا حرية بدون مسئولية»، والحرية تشترط الأهلية المتمثلة فى العقل، وبلوغ الرشد، فهما أساس تحمل المسئولية، وبالتالى يُصبح الإنسان العاقل مسئولا عن اختياراته، وسيُحاسب عليها، لأنه ليس مُضطرا، وغير مُسير، فهذا هو منطق القرآن الكريم من حيث المسئولية والجزاء كما فى الآية الكريمة: «يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».
من هنا بدأت مرحلة جديدة فى تاريخ البشرية، أُلغيت وسائل الاتصال بين الإنسان والسماء، وأصبحت المعجزات تاريخا لا عودة له، واعتبر الله أن الإنسان وصل لمرحلة الرشد، يستطيع الاعتماد على العقل، والتفكير، والتأمل، والتخيُل، ليدبر حياته بنفسه، وينطلق ليصبح الخليفة الفعلى لله على أرضه.
وهكذا اعتُبرت الرسالة المحمدية نقلة نوعية فى تاريخ البشرية، لأنها سلمت الإنسان أمانة الخلافة، وانتهى التوجيه الإلهى المباشر، مُكتفيا بكتابه فقط، يتحرك الإنسان بكامل حريته وإرادته، بما لا يتعارض مع ثوابت الكتاب، وأما المتغيرات، فلا يجد الإنسان إلا نصائح فى كتاب الله، فمثلا، إذا فُرضت عليه الحرب، وجد الإرشاد الإلهى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»، وإذا وجد السلم حَلا له: «فإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله»، فليس فى ذلك تناقض، ولكنها ظروف الإنسان، مع تحكيم عقله فقط، هما اللذان يتيحان له الاختيار بين الحرب والسلم! وهذا دليل قاطع على أن الإنسان حُر ومُخير فى تَسير أمور حياته، إلا فيما اضطر له.
وبذلك انتهى دور الرسالات السماوية، وأصبحت المعرفة تأتى من الإنسان للإنسان مباشرة، ويقوم بها العلماء والفلاسفة بديلا عن الأنبياء والرسل، فرأينا عمر بن الخطاب ــ رضى الله عنه ــ يوقف حد السرقة فى عام الرمادة، ويُلغى مبدأ «المُؤلفة قلوبهم»، عندما شعر بعدم الحاجة إليه، وحرم زواج المتعة، عندما رأى فيه شبهة الزنا، ولم يتهمه أحد بأنه ناقض الكتاب أو السنة!
ولكن أحداث التاريخ تثبت أن المسلمين ــ بعد الشيخين: أبو بكر وعمر ــ ابتعدوا عن المفهوم الصحيح للرسالة المحمدية، وهى أن إرادة الإنسان وعقله واختياراته هم الأساس فى الحياة الدنيا، فوجدنا أول انقلاب على هذا المبدأ فى عهد معاوية بن أبى سفيان، عندما– أولاــ أدخل الدين فى السياسة، فرفع المصاحف فى موقعة صفين ليتحايل على هزيمته من جيش على بن أبى طالب، وثانيا، عندما ابتدع أنصاره النظرية «الجبرية»، ليبرروا له توريث الحكم إلى ابنه يزيد، فقالوا لو أن مشيئة الله ضد التوريث لما تمت!
ومن هنا كان خلط الدين بالسياسة، وإلغاء إرادة وعقل الإنسان، وهذا هو ما تُعانيه الأمم الإسلامية حتى الآن، فنرى فى أهل السُنة «جماعة الإخوان» فى كل الدول العربية تتلاعب بالدين لتُمسك بالسلطة، وفى الفرق الشيعية نجد «حزب الله» يخرج عن سياق نظام الحكم فى لبنان، فينتفض كل الشعب اللبنانى ضده وضد المذهبية الدينية بكل طوائفها، لأنهم اكتشفوا خديعة خلط الدين بالسياسة، فيرفعوا شعار «كلن يعنى كلن»، فى دعوة لدولة مدنية!
ويتحول العدوان التركى على سوريا، واحتلال أراضيها، وقتل أطفالها ونسائها، إلى «نبع السلام»!، ويصبح مشروعا لتحقيق الخلافة العثمانية!؛ وفى إيرانــ منذ قيام ثورة الخمينى ــ يرفع الحكام شعار «ولاية الفقيه» الذى يُبيح العدوان على الآخرين، بهدف التوسعة المذهبية الشيعية!
لقد كانت دولة «الإسلام» هى الدولة المدنية التى أسسها النبى ــ صلى الله عليه وسلم ــ فى المدينة المنورة، تعايشت فيها كل الأديان السماوية، والوضعية كالمجوس، وساد فيها التسامح، وتحكيم العقل والمنطق، وربط العلاقات الدنيوية بين الناس بالعقود والمواثيق البشرية، وليست الإلهية.
فهل لنا أن نأمل فى أن يستوعب المسلمون الرسالة المحمدية على حقيقتها، ويعودوا لمنطق العقل، وتسيُد العِلم؟ كما أخبرنا سبحانه وتعالى: «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ» فى إشارة إلى أن العلماء هم أفضل الناس بعلمهم، لأنهم يُعمِلون عقولهم أعظم منحة إلاهية للإنسان؟
وسلام على النبى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فى يوم مولده.