لم أكن غنيًا.. كنت ساذجًا!
أسامة غريب
آخر تحديث:
الجمعة 7 نوفمبر 2025 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
فى السنوات التى قضيتها فى كندا كان ينتابنى إحساس غريب لم أشعر به من قبل.. كنت أعايش شعورا بأننى من الناحية المادية يمكن أن أوضع فى عداد الأغنياء مقارنة بغالبية أهل البلد، وكان هذا الشعور يدهشنى ويسبب لى ربكة، إذ إننى كنت مجرد موظف ولم أكن مستثمرا أو رجل أعمال. صحيح أننى كنت مديرا لشركة طيران، لكن هذا المنصب شغلته من قبل فى الكويت أيضًا دون أن أحس بهذا الشعور! لقد تصورت أن يكون هذا الإحساس طبيعيًا لو أن الشركة أوفدتنى إلى أحد بلاد إفريقيا البائسة أو آسيا التعيسة حيث يعيش الناس فى العشش الصفيح ويشربون من النهر مباشرة، أما فى كندا الغنية العفية التى تمنح القروض والمعونات للدول الفقيرة فإن دهشتى كان لها ما يبررها. بمرور الوقت زالت الدهشة بعد أن فهمت حقيقة الوضع وعرفت أن الناس هناك يشكلون طبقة وسطى عريضة من محدودى الدخل الذين يجدون ما يكفيهم لكن دون فوائض.. وعرفت أيضا أن الحاجة ليست ماسة فى هذا النوع من المجتمعات العادلة إلى الانخراط فى مطحنة الحياة من أجل المال، ذلك أن الدولة تقدم الخدمات وتوفر الاحتياجات الأساسية بالمجان، فالتعليم مجانى وكذلك العلاج، وأسعار مستلزمات الحياة كالطعام والملابس والمواصلات رخيصة وفى قدرة الجميع، كما أن الدولة تشارك فى دفع إيجار المسكن إذا لم يكن رب الأسرة قادرا!. وعقدت مقارنة بين مدرسة أبنائى الحكومية المجانية فى ضاحية ويست ماونت التى تقدم لهما وجبتى طعام فى كل يوم دراسى، هذا غير الرحلات بالمجان وبدون أى اشتراك يدفعه ولى الأمر، وبين أى مدرسة فى نفس المستوى فى مصر فوجدت أن كندا توفر لى بالنسبة لبند تعليم الأولاد مئات الآلاف من الجنيهات كل سنة، وربما أن هذه الأموال التى توفرت هى التى كانت تشعرنى بأننى من الموسرين!
وهناك يستطيع أى مواطن أن يتملك منزلا ثم يسدد ثمنه للبنك على أقساط مريحة تبعا لدخله، ولو مات أحد المقترضين قبل السداد يسقط الدين فورا عن الورثة وتتولى الحكومة سداد الأقساط الباقية، وبهذا تستطيع الأسرة أن تتماسك وتستأنف الحياة دون هوان أو تشرد. وكنت قد لاحظت أن بعض الأولاد من زملاء أبنائى فى المدرسة يذهبون لتلقى العلم وهم يرتدون البيجامات التى ناموا بها، بمعنى أن الأهل لم يشتروا لهم ملابس للخروج أو للمدرسة، وعند توصيلى لبعضهم بعد أن يقوموا بزيارتنا فى البيت كنت أرى المساكن المتواضعة التى يسكنونها.. هى صحيح متواضعة لكنها لا تخلو من الماء والصرف والكهرباء والتدفئة أى احتياجات الإنسان الأساسية، كما أن شوارع الحى مسفلتة ومرصوفة وتوجد بها المكتبة العامة والملاعب ولا ينقص السكان شىء من أساسيات الحياة التى يحظى بها الأغنياء فى أحيائهم، وهؤلاء الأولاد رغم رقة حالهم فإن المدرسة التى ترعاهم وتعلمهم بالمجان كانت تعرف جيدا أن من ضمن هؤلاء سيخرج علماء ونابغون وقادة وشخصيات مؤثرة. لم يكونوا دولة اشتراكية من تلك التى توزع الفقر على الجميع بالتساوى وإنما تركوا الحافز الفردى قائما وسبل المنافسة مفتوحة لمن يرغب فى حياة بها ترف زائد وسلع استهلاكية أكثر!..هكذا كان الناس يعيشون فى طمأنينة لا تجعلهم يحملون همّ تزويج البنت وتجهيزها، أو شراء شقة تمليك للولد أو ادخار قرشين للعلاج أو لمفاجآت الحياة غير المتوقعة. ولعل هذا ما جعلنى أكتشف سذاجتى عندما تصورت نفسى أغنى منهم لمجرد أن راتبى أعلى من غالبيتهم، ونسيت انتمائى لبلاد يذل فيها الإنسان وتُدهس كرامته لمجرد أن دخله محدود.. بلاد تفتح أحضانها لأصحاب الملايين الذين يمتلكون كل شىء بينما أى موظف شريف - مهما علا - لا يساوى بصلة، وحيث لا يملك الفقير ترف أن يمرض!
ومن المحزن أن غياب العدالة الإجتماعية قد ولّد ظروفًا جعلت الناس فى حالة هوس خشية السقوط فى بئر الفقر والغوص فى ظلماته، وينطبق هذا على الطبقة الوسطى أكثر من انطباقه على الطبقات الدنيا، فهؤلاء لا يخشون على أنفسهم فقط لكن خشيتهم على أبنائهم أكبر، ولعلهم بوعى أو دون وعى يتمثلون أحداث قصة «شىء فى صدرى» للكاتب المرحوم إحسان عبد القدوس التى قدمتها السينما، وهى نموذج كلاسيكى يوضح أن كل ما يبنيه المرء فى حياته واستثماره فى أولاده من خلال تعليمهم وتربيتهم .. كل هذا يمكن أن يضيع إذا مات الإنسان فجأة دون أن يترك لأبنائه مالا. فى الفيلم رأينا الباشا رشدى أباظة لا ينسى ثأره مع غريمه الشريف، وهو الدور الذى أداه شكرى سرحان، فبعد أن يموت الأخير لا ينسى الباشا صديقه القديم وغريمه الذى استعصى على الإفساد ورفض كل عروض الغواية، فيسعى إلى الانتقام منه من خلال إذلال زوجته وابنته بعد أن تقرب إليهما واستولى عليهما ووضعهما تحت وصايته، ثم شروعه فى افتراس الاثنتين بعدما فقدا العائل الشريف الذى كان يحميهما ويصد عنهما الغيلان.
فى بلد مثل كندا لا تحتاج أن تترك للأبناء مالا لأن الدولة ترعى المواطنين وتكفل لهم الحياة الكريمة، لكن فى بلادنا يمكن أن تحدث لهم كوارث إذا لم تفعل.. أبسطها أن يتمكن أعداؤك من الاستيلاء على زوجتك والعبث بها نكاية فيك، ثم الحصول على ابنتك وافتراسها تعويضا عن كل مباريات الشرف التى فزتَ فيها عليهم أثناء حياتك.. فيا خفى الألطاف نجنا مما نخاف!