القوة الجديدة: الذكاء الاصطناعي والتحولات الاستراتيجية العالمية
عمرو حلمي
آخر تحديث:
الجمعة 7 نوفمبر 2025 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
يشهد العالم اليوم تحولًا جذريًا في بنية النظام الدولي مع بروز الثورة الصناعية الرابعة وتطور الذكاء الاصطناعي، الذي أعاد تعريف مفاهيم القوة والثروه والنفوذ والقدره علي التأثير. فبعد أن كانت المكانة الدولية تُقاس بما تمتلكه الدول من قدرات عسكرية أو ثروات اقتصادية، أصبحت السيطرة على المعرفة وتحليل البيانات وتطوير الأنظمة الذكية وتوجيه مسارات الابتكار العلمي هي الركائز الجديدة التي تصوغ توازنات القوة في القرن الحادي والعشرين.
ولا يقتصر هذا التحول على بعدٍ معرفي أو اقتصادي فحسب، بل يمتد إلى جوهر المشهد الجيوسياسي، حيث يتجسّد اليوم في التنافس المتسارع بين الولايات المتحدة والصين، قطبي الذكاء الاصطناعي العالميين. فقد أدركت القوتان أن من يمتلك زمام الريادة في هذا المجال سيمتلك مفاتيح القيادة العالمية في العقود المقبله، حيث تعتمد الولايات المتحدة على تفوقها العلمي من خلال جامعاتها مثل MIT وStanford وHarvard وBerkeley، إلى جانب مراكز الابتكار والبحث في Silicon Valley، حيث تعمل شركات ناشئة ومتقدمة على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها العملية، مثل التعلم العميق وتحليل البيانات الضخمة. وتشكل هذه البيئة الأكاديمية والصناعية معًا شبكة متكاملة لدعم الابتكار، وهو ما يعزز مكانة الولايات المتحدة القيادية في الاقتصاد القائم على المعرفة. كما تضم الشركات العملاقة مثل Google وMicrosoft وOpenAI وNVIDIA التي تقود مسيرة الابتكار في مجالات البرمجيات والمعالجات ومنصات المعلومات الضخمة، العمود الفقري للصناعة التكنولوجية الأمريكية وأحد أهم مفاتيح النفوذ الامريكي العالمي
وفي المقابل، تسعى الصين إلى تضييق الفجوة مع واشنطن عبر استراتيجية طموحة تهدف إلى تحقيق الريادة في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وفق “الخطة الوطنية الصينية للذكاء الاصطناعي”. وقد خصصت بكين استثمارات ضخمة للبحث والتطوير، وأطلقت منظومة دعم واسعة لشركات مثل Baidu وAlibaba وTencent وHuawei، فضلًا عن منصة TikTok التي تُعد نموذجًا متقدمًا في تحليل البيانات وخوارزميات التوصية الذكية. ولا يقتصر طموح الصين على البنية الرقمية وشبكات الجيل الخامس، بل يمتد إلى المجالات التطبيقية، من المراقبة الذكية والتعرف على الوجوه إلى الروبوتات الصناعية والسيارات الكهربائية والذاتية القيادة، وأنظمة التسليح التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي. وهكذا يغدو التنافس بين واشنطن وبكين ليس مجرد صراع على الأسواق أو الموارد، بل صراعًا على من يملك عقل العالم في عصر الذكاء الاصطناعي.
وما يعمّق هذا التنافس أن التفوق في الذكاء الاصطناعي أصبح أداة استراتيجية حاسمة في تحديد موازين القوى. فهذه الأنظمة تستند إلى الخوارزميات (Algorithms) التي تتيح تحليل البيانات واتخاذ القرارات بشكل ذاتي لتوليد النتائج والتنبؤات بسرعة ودقة غير مسبوقتين، الأمر الذي يمنح الدول المتقدمة في هذا المجال ميزة استراتيجية مضاعفة، تعزز إنتاجيتها ونفوذها الاقتصادي والسياسي. وتشير تقديرات حديثة إلى أن الدول الرائدة في الذكاء الاصطناعي قد ترفع إنتاجيتها بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المئة خلال العقدين المقبلين، وهو ما يعني إعادة رسم الخريطة الاقتصادية والسياسية للعالم.
ولعلّ ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن “من سيتقدم في الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم” لم يكن مبالغة، بل توصيفًا دقيقًا لجوهر التحول الجاري. فالتاريخ يبرهن أن كل ثورة صناعية كانت نقطة انعطاف كبرى في مسار القوة العالمية: الأولى في القرن الثامن عشر اعتمدت على الفحم والبخار، والثانية في أواخر القرن التاسع عشر استندت إلى الكهرباء وخطوط الإنتاج، والثالثة في منتصف القرن العشرين قامت على الإلكترونيات والمعلومات، فرفعت الكفاءة وقللت الاعتماد على الجهد البشري. أما الثورة الصناعية الرابعة، القائمة على الذكاء الاصطناعي، فقد منحت الحاسبات قدرة على التعلم والتحليل واتخاذ القرار، فانتقلت التكنولوجيا من مجرد “أداة” إلى “شريك في الإنجاز”.
لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي حدود الاستخدامات العلمية والاقتصادية إلى فضاءات جديدة تشمل الإبداع الثقافي والفني والإعلامي، اذ باتت الأنظمة الذكية قادرة على أداء مهام التفكير والتحليل والإبداع في مجالات كانت حكرًا على الإنسان، فأنظمة الذكاء الاصطناعي أصبحت قادرة على كتابة النصوص وتحليل الخطاب وإنتاج الصور والموسيقى، بل والمشاركة في عمليات البحث العلمي والتخطيط الاستراتيجي. ومع هذا الاتساع غير المسبوق، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مجال معرفي واعد، بل تحول إلى محور لإعادة توزيع القوة والثروه والنفوذ في العالم. وتشير دراسات متخصصة إلى أن أكثر من 80 في المئة من الاقتصادات المتقدمة ستعتمد عليه بشكل مباشر في رسم سياساتها الاقتصادية والأمنية خلال العقدين المقبلين، وهو ما يعكس انتقال مركز الثقل من القوة المادية إلى القوة المعرفية الذكية او ما يطلق عليه بال Intelligent Knowledge Power و تشير تقديرات حديثة إلى أن الدول المتقدمة في هذا المجال قد تزيد إنتاجيتها الاقتصادية بنسبة 20 إلى 30٪ خلال العقدين المقبلين، ما يضاعف نفوذها السياسي والاقتصادي على المستوى الدولي
ولقد أفرز هذا الواقع ما يُعرف اليوم بـ “الفجوة الخوارزمية” (Algorithmic Gap) بين الدول المتقدمة وسائر الدول الأخرى. وهي فجوة تتجاوز التفاوت الاقتصادي التقليدي، لأنها تمس جوهر عملية اتخاذ القرار نفسها. فالدول القادرة على التحكم في الخوارزميات والبيانات تمتلك شكلًا جديدًا من الهيمنة الرقمية والمعرفية، يتيح لها توجيه مسارات الاقتصاد والسياسة والأمن في العالم.
غير أن صعود هذه القوة الجديدة لا يخلو من مخاطر. فإلى جانب الفرص الواسعة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي للنمو والابتكار، تظهر تحديات متزايدة تتعلق بالأمن السيبراني، والتحيز في الخوارزميات، واتساع الفجوة التكنولوجية بين الدول، فضلًا عن تهديدات الخصوصية واحتمال فقدان السيطرة على الأنظمة الذكية، وهنا تكمن المعضلة الكبرى: كيف يمكن للإنسان أن يوجّه هذه القوة في خدمة التنمية والتقدم دون أن تتحول إلى قوة تتجاوز ارادته أو تتحايل علي قراراته؟ وفي هذا الصدد تسعى المنظمات العالمية إلى وضع أطر أخلاقية ومسؤولة لتوجيه استخدام الذكاء الاصطناعي. فقد أطلقت اليونسكو مبادرة لوضع مدونة للسلوك في مجال الذكاء الاصطناعي تهدف إلى ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان، بينما شكل سكرتير عام الأمم المتحدة فريق عمل رفيع المستوى للذكاء الاصطناعي لمتابعة تطوير الأطر العالمية واستخدام هذه التقنيات بشكل آمن ومسؤول، بما يحمي المجتمعات من المخاطر المحتملة ويعزز الابتكار المسؤول
في نهاية المطاف، يقف العالم اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تتجاوز مفاهيم القوة التقليدية إلى آفاق القوة المعرفية والعلميه. والدول التي تنجح في توجيه هذه القوة بحكمة ومسؤولية ستكون الأقدر على رسم ملامح القرن الحادي والعشرين وتحويل التقدم العلمي إلى رافعة للنمو والازدهار، فيما ستجد الدول التي تتخلف عن استيعاب هذا التحول نفسها أمام أزمات وتحديات قد تعيد ترتيب مواقعها على خريطة العالم.