السودان.. ضرورة التلاقى الإقليمى والدولى لإنهاء الحرب ومنع التفتيت

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 7 نوفمبر 2025 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

منذ اندلاع الحرب الأهلية فى السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، يعيش هذا البلد العربى الإفريقى الشقيق واحدة من أكثر لحظات تاريخه الحديث قسوة وخطورة. الدمار الذى أصاب الخرطوم ومدنًا كبرى، والنزوح الداخلى والخارجى لملايين المدنيين، وانهيار مؤسسات الدولة، وتحلل البنية الاجتماعية، كلها مؤشرات على حرب لا رابح فيها سوى الفوضى والانقسام. فى الوقت ذاته، يبدو المجتمع الدولى عاجزًا عن بلورة إرادة حقيقية لوقف النزيف، بينما تتفاوت المواقف الإقليمية وتتشابك المصالح على نحو يجعل السودان ميدان تنافس بدلًا من أن يكون ساحة توافق وإنقاذ.
لقد دخل السودان هذه الحرب وهو يحمل إرثًا ثقيلًا من الأزمات السياسية والاقتصادية، لكنّ الانهيار الراهن فاق كل التوقعات. فالمواجهات المسلحة تحوّلت إلى صراع مفتوح على السلطة والثروة والمجال الجغرافى، وتنامت معه أخطار التفكك الوطنى. مناطق بأكملها خرجت عن السيطرة المركزية، وتغلغلت النزعات القبلية والإثنية فى نسيج الدولة. ومع امتداد النزاع، أصبح شبح تقسيم السودان مجددًا خطرًا واقعيًا، خصوصًا فى ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية وانهيار الخدمات وتآكل المؤسسات.
غير أن السودان ليس شأنًا داخليًا فحسب. فهو بلد يقع فى قلب الإقليم، يتقاطع مع مصالح وأمن جيرانه جميعًا، وعلى رأسهم مصر. فحدود السودان الشمالية والشرقية تمس الأمن القومى المصرى مباشرة، لا سيما فى ما يتعلق بأمن المياه فى حوض النيل، وبالحدود الممتدة بطول أكثر من ألف كيلومتر، وبالتأثيرات الإنسانية والسياسية والأمنية التى يفرضها استمرار النزاع. كما أن السودان يمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر فى إفريقيا، وامتدادًا طبيعيًا لدوائرها الجغرافية والاقتصادية. ومن ثم، فإن استقرار السودان ليس ترفًا سياسيًا بالنسبة للقاهرة بل ضرورة وجودية للأمن الوطنى المصرى والإقليمى.
• • •
من هنا، تتحرك مصر برؤية متزنة وواقعية تجاه الأزمة. فبينما تتجنب الانحياز إلى طرف على حساب آخر، تضع القاهرة أولوية قصوى للحفاظ على وحدة السودان وإنهاء القتال وبدء مسار تفاوضى جامع. هذا هو جوهر الدور المصري: الدفع نحو التهدئة والحوار، وتحذير المجتمعين الإقليمى والدولى من مغبة ترك السودان يغرق فى دوامة الانقسام والحروب المحلية. كما تدرك مصر أن إعادة بناء مؤسسات الدولة السودانية لا يمكن أن تتم إلا من خلال تفاهم وطنى شامل، تدعمه بيئة إقليمية مستقرة ومسئولة، وإرادة دولية صادقة تدرك أن انهيار السودان سيصيب الإقليم كله بعدواه.
لكن هذا الدور المصرى لا يمكن أن يُثمر وحده فى غياب تلاقى الإرادة الإقليمية والدولية. فالتجاذب بين القوى الفاعلة حول مسارات الحل، واستمرار دعم بعض الأطراف الإقليمية والعالمية لقوى متحاربة بالسلاح والمال، يطيل أمد النزاع ويقوّض فرص التفاوض. المطلوب اليوم توافق إقليمى حقيقى -يضم مصر ودول الجوار العربى والإفريقى، والاتحاد الإفريقى، والجامعة العربية، والأمم المتحدة- على خريطة طريق واقعية تقوم على وقف فورى لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وإطلاق حوار سياسى بين الأطراف السودانية كافة دون إقصاء.
• • •
إن الحل فى السودان لا يمكن أن يُفرض من الخارج، لكنه أيضًا لا يمكن أن يُترك رهينة توازنات داخلية مأزومة أو مصالح إقليمية ضيقة. المطلوب دعم وطنى سودانى خالص للمسار التفاوضى، وإرادة إقليمية جامعة تمنع تغذية الصراع، وإسناد دولى يعيد للسودان مكانته فى النظامين العربى والإفريقى. وحده هذا التلاقى المتكامل بين الداخل والإقليم والعالم يمكن أن يوقف التدهور ويمنع تفتيت السودان ويعيد للدولة السودانية مركزها كركيزة استقرار فى القارة.
ولعل المجتمع الدولى مطالب اليوم بأن يتجاوز سياسة البيانات والقلق الدبلوماسى إلى خطوات عملية: دعم مبادرات الوساطة الإقليمية بجدية، توفير التمويل العاجل للاستجابة الإنسانية، حماية المدنيين من الانتهاكات الواسعة، والضغط على الأطراف كافة للانخراط فى حوار شامل برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى. فالسودان، بكل ما يحمله من إمكانات بشرية واقتصادية وموقع جغرافى استثنائى، يستحق أن يكون نموذجًا للتعافى لا ساحة لصراع النفوذ.
على المستوى العربى، من الضرورى أن تتحول الدعوات إلى التضامن مع السودان إلى سياسة عربية جماعية واضحة. فاستقرار السودان هو استقرار للمنطقة كلها: أمن البحر الأحمر، حركة التجارة، توازنات القرن الإفريقى، وأمن النيل كلها قضايا ترتبط بمستقبل السودان. لذا يجب أن تنخرط الدول العربية، خصوصًا مصر والسعودية والإمارات ودول شمال إفريقيا، فى تحرك منسق لدعم التفاوض والتهدئة والإعمار لاحقًا، بدلًا من ترك الساحة لتدخلات متنافرة تكرّس الفوضى.
• • •
إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن تنجح الإرادة الإقليمية والدولية فى وقف الحرب وإطلاق مسار سياسى جديد، أو أن ينزلق البلد إلى تفكك يصعب احتواؤه. والاختيار لا يخص السودانيين وحدهم، بل يمتد أثره إلى كل محيطهم العربى والإفريقى. إن ترك السودان يغرق يعنى قبولًا ضمنيًا بانهيار جديد فى النظام الإقليمى، وبفقدان ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار فى وادى النيل والقرن الإفريقى.
إن واجبنا العربى والإنسانى يفرض أن نتحرك الآن، لا غدًا، لإنقاذ السودان من مصيره الكارثى. التلاقى بين الإرادة الوطنية السودانية، والتحرك الإقليمى المتزن الذى تقوده مصر وشركاؤها، والإسناد الدولى الجاد، هو الطريق الوحيد لوقف هذه المأساة. السودان ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل بلد يحتاج إلى دعم العالم لاستعادة وحدته ودولته ومستقبله.

أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved