عالم مرتبك مرتبك مرتبك
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 ديسمبر 2016 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
شاهدت وأنا صغير رواية سينمائية بعنوان إنه عالم مجنون مجنون مجنون. لم تكن الرواية على ما أذكر شيئا عظيما ولكن بقى عنوانها يهف على ذاكرتى كلما وجدت صعوبة فى وضع اطار يساعدنى على فهم ما يجرى فى العالم واستشراف مستقبله القريب. مشكلتى الراهنة مع عالم اليوم ليست فى صعوبة فهم ما يحدث فى العالم أو فى مدى انطباق صفة الجنون على حالته. مشكلتى هى فى الانبهار بظاهرة مرشح لمنصب الرئاسة الأمريكية استطاع منفردا أن يتسبب فى ارتباك هائل فى كل ركن من أركان العالم. أعنى ما أقول ولست مبالغا، بدليل أننى ما فكرت أكتب فى أزمة أو قضية فى ركن أو آخر إلا ووجدت العنصر الترامبوى مهيمنا بالفعل أو بانتظاره. إن أردت مناقشة الوضع الإقليمى فى جنوب شرقى آسيا وموقع الصين فى تفاعلاته أو مناقشة الأوضاع الأوروبية عامة والعلاقات مع روسيا والتطورات الداخلية فى كل دولة على حدة فستجد دونالد ترامب عنصرا فاعلا. تجده أيضا عند البحث فى حال ومستقبل علاقات كوبا ببقية أقطار أمريكا اللاتينية أو عند مناقشة عواقب استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى البرازيل. تجد ترامب هناك وستجد أيضا حالة ارتباك مثيرة للتأمل ولكن دافعة للقلق أو الخوف.
***
يرتبط بهذا الانبهار الملاحظة التى ساقها زميل من المحللين المخضرمين. يقول إنه خلال متابعته ما تكتبه الصحف الأجنبية لاحظ أن اسم ترامب صار يحل محل أمريكا فى كثير من التعليقات والتحليلات التى تتناول مستقبل علاقات أمريكا بالخارج ومكانتها بين الدول. واقع الأمر هو أن للرئيس الأمريكى دورا متميزا فى صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية وسياسات الدفاع، وأن فى كل العهود كانت للرئيس بصمة تختلف كثيرا أو قليلا عن بصمة خلفه أو بصمة سلفه، ولكن هناك خصوصية واضحة للحالة الترامبوية. إذ لم يحدث أن مرشحا للرئاسة الأمريكية فعل فى عالم العلاقات الدولية خلال الحملة الانتخابية ما فعله ترامب. كانت تصرفات هذا المرشح أشبه شىء ممكن بتصرفات ثور هائج فى متحف للخزف، أو بحجر ألقاه طفل فى مياه بحيرة راكدة، أو «شجيع» فى أفلام رعاة البقر نزل على مدينة هادئة فأوعز إلى سكانها بأفكار وممارسات لم يعرفوها أو تعمدوا على الدوام إنكارها.
***
زميل آخر، مارس العمل العربى المشترك لفترة، ومارس العمل الدولى لفترة أخرى أسر لى بملاحظة أخرى. لاحظ فى الآونة الأخيرة أن نسبة متصاعدة من المعلقين الأجانب أصبحوا يستخدمون مفهوم الشرق الأوسط كلما أرادوا الحديث أو الكتابة عن أمر يتعلق فى أساسه وفى تفاصيله بالعرب والمنطقة العربية. تأكدت من صدق الملاحظة بعد أن بدأت أركز على المفاهيم التى يستخدمها من جديد المحللون العرب و«الميديا» العربية، تأكدت أكثر حين اكتشفت أن كثيرا من المسئولين العرب ومنهم موظفون إقليميون صاروا هم أنفسهم حين يتحدثون عن شأن عربى فإنهم يتفادون الصفة أو الهوية العربية للموضوع مفضلين عليها مفهوما دينيا أو طائفيا أو فى أحسن الأحوال شرق أوسطى. غابت، أو تغيب، مفاهيم «عربية» وأخشى أن تكون هوية الانسان العربى بين ما يغيب بعد أن غابت أراض كانت عربية وغابت مصالح ومشاعر وها هم يتكاتفون ويتضامنون لتغييب مؤسساتهم القومية وفى صدارتها جامعة الدول العربية، باعتبارها رمز وجود نظام إقليمى عربى تصدى طويلا لأفكار ومشاريع إقامة نظام إقليمى بهوية أخرى أو بهويات متعددة.
***
سئلت إن كنت أعتبر العرب منذ اندلاع الحملة الانتخابية وتدفق التصريحات الترامبوية يتصرفون كالأوروبيين تصرفات اليتامى. أجبت بأن بعض العرب سبقوا الأوروبيين فى هذا المضمار لأنهم لم يدركوا فى الوقت المناسب أنهم حين باركوا كمسئولين ونخبا حاكمة العمل الطائش الذى أقدم عليه الرئيس جورج بوش وتابعه الذكى طونى بلير فى المنطقة فإنهم قضوا بهذه المباركة والدعم المخلص على كل أمل فى أن تشهد العروبة بعد ذلك تجديدا أو نهضة.
وبالفعل بدأ وقتذاك التدهور يتسارع وتسربت جرثومة الانفراط واشتعلت من شرارة الجريمة «البوشية» نيران الطائفية. لم نكن وحدنا الذين انتبهوا خلال النصف الأخير من ولاية باراك أوباما لتصرفات عربية كتصرفات من فقد حماية ولى الأمر ورعايته ونصحه. تجسدت الحالة المثلى لكوكبة من التصرفات العربية الغريبة فى تعامل العرب جميع مع الثورة السورية. لم أجد وقتها وصفا مناسبا لحالة التصرفات العربية المتناقضة وأحيانا الطفولية أو على الأقل غير الناضجة إلا بأنهم كاليتامى فى حفل تأبين. أوباما، فى رأيى وقتذاك وحتى الآن، كان التجسيد الحى لفهم جديد لدور أمريكا فى عالم ما بعد العولمة وعالم ما بعد الاستثنائية الأمريكية. كان أيضا قد توصل إلى أن للموارد الأمريكية حدودا ونهايات وإلى خطورة الاعتماد على الديون للإنفاق على طموحات امبريالية غير مناسبة فى تكلفتها لحال الاقتصاد الأمريكى والعالمى على حد سواء. لهذه الأسباب وأسباب أخرى ولقناعات شخصية بدأ أوباما تنفيذ عملية انسحاب تدريجى من الشرق الأوسط والتحول التدريجى أيضا نحو شرق آسيا. فى الوقت نفسه كان الرئيس بوتين قد تأكد من أن العرب وقد فقدوا درعهم الواقية صاروا جاهزين لتدخلات روسية جديدة تحمى بعضهم من البعض الآخر وأن المنطقة العربية، ضمن مفهوم الشرق الأوسط، بصراعات جديدة طائفية وعرقية ودينية، صارت جاهزة لاستقبال اختراق جديد من روسيا الدولة العائدة بسرعة إلى القمة.
***
ورث ترامب عن أوباما معظم جوانب هذا الفهم للشرق الأوسط وموقع العرب فيه. لن تعود أمريكا فى عهده وليا لأمر العرب أو غيرهم. لن يعترض على مساعى أوباما استحضار روسيا للشرق الأوسط بل لم يخف أنه جاهز لتعاون أوثق من تعاون أوباما معهم. لن يجدد فى مساعى التسوية المستحيلة فى الصراع العربى الإسرائيلى أو فى أى صراع آخر فى الشرق الأوسط باستثناء صراعه العقائدى، والشخصى، مع الأصولية الإسلامية. أستطيع من موقعى هنا تصور حجم وكثافة التناقض الذى سوف تتميز به السياسات الخارجية لكل دولة عربية على حدة والدول العربية مجتمعة فى عالم جديد، عالم من صنع أفعال دونالد ترامب وردودها.