الانهيار الـمُـحَـتَّـم
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 ديسمبر 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب نورييل روبينى تناول فيه أسباب الأزمات الاقتصادية التى يشهدها العالم الآن وتأثيرها على الأسر والمؤسسات والحكومات، مشيرا إلى أن التزامن ما بين ظهور الركود التضخمى والأزمات الاقتصادية الحالية سيؤدى فى نهاية المضاف إلى الانهيار الاقتصادى المحتوم... نعرض من المقال ما يلى:
يترنح الاقتصاد العالمى الآن متجها نحو حشد غير مسبوق من الأزمات الاقتصادية والمالية وأزمات الديون، فى أعقاب انفجار العجز والاقتراض والإنفاق بالاستدانة (الروافع المالية) فى العقود الأخيرة.
فى القطاع الخاص، يشمل جبل الديون تلك المستحقة على الأسر (مثل قروض الرهن العقارى، وبطاقات الائتمان، وقروض السيارات، وقروض الطلاب، والقروض الشخصية)، والمستحقة على الأعمال التجارية والشركات (القروض المصرفية، وديون السندات، والديون الخاصة)، وديون القطاع المالى (الخصومات المستحقة على المؤسسات المصرفية وغير المصرفية). وفى القطاع العام، يشمل جبل الديون سندات الحكومات المركزية والإقليمية والمحلية وغير ذلك من الالتزامات الرسمية، فضلا عن الديون الضمنية مثل الالتزامات غير الممولة من خطط معاشات التقاعد المدفوعة أولا بأول وأنظمة الرعاية الصحية ــ وكل هذا سيستمر فى النمو مع تزايد الشيخوخة السكانية.
• • •
بمجرد إلقاء نظرة على الديون الصريحة نجد أن الأرقام مذهلة. على المستوى العالمى، ارتفع إجمالى ديون القطاعين العام والخاص كحصة من الناتج المحلى الإجمالى من 200% فى عام 1999 إلى 350% فى عام 2021. والآن أصبحت النسبة 420% فى مختلف الاقتصادات المتقدمة، ونحو 330% فى الصين. فى الولايات المتحدة، بلغت النسبة 420%، وهذا أعلى مما كانت عليه أثناء فترة الكساد العظيم وبعد الحرب العالمية الثانية.
بطبيعة الحال، من الممكن أن يعمل الدين على تعزيز النشاط الاقتصادى إذا استثمر المقترضون فى رأس المال الجديد (الآلات، والمساكن، والبنية الأساسية العامة) التى تحقق عوائد أعلى من تكلفة الاقتراض. لكن قدرا كبيرا من الاقتراض يذهب ببساطة لتمويل الإنفاق الاستهلاكى الذى يزيد على دخل الفرد على أساس مستمر ــ وهذه وصفة للإفلاس. علاوة على ذلك، قد يكون الاستثمار فى «رأس المال» محفوفا بالمخاطر أيضا، سواء كان المقترض أسرة تشترى مسكنا بسعر مبالغ فيه بشكل مصطنع، أو شركة تسعى إلى التوسع بسرعة أكبر مما ينبغى بصرف النظر عن العائد، أو حكومة تنفق المال على «أفيال بيضاء» (مشاريع بنية أساسية مُـسرِفة لكنها غير مجدية ولا نفع يعود منها).
كان مثل هذا الاقتراض المفرط متواصلا لعقود من الزمن، لأسباب متنوعة. وقد سمح إضفاء الطابع الديمقراطى على التمويل للأسر التى تعانى من ضائقة مالية بتمويل الاستهلاك بالاستدانة. كما دأبت حكومات يمين الوسط على خفض الضرائب دون خفض الإنفاق أيضا، فى حين أنفقت حكومات يسار الوسط بسخاء على البرامج الاجتماعية غير الممولة بالكامل من خلال فرض ضرائب أعلى بالقدر الكافى. كما عملت السياسات الضريبية التى تفضل الديون على الأسهم، والتى تدعمها سياسات نقدية وائتمانية مفرطة فى التساهل من جانب البنوك المركزية، على تغذية ارتفاع شديد فى الاقتراض فى كل من القطاعين العام والخاص.
ساعدت سنوات من التيسير الكمى والتيسير الائتمانى فى الإبقاء على تكاليف الاقتراض قريبة من الصِـفر، وفى بعض الحالات كانت حتى سلبية (كما كانت الحال فى أوروبا واليابان، حتى وقت قريب). بحلول عام 2020، بلغ الدين العام ذو العائد السلبى المكافئ للدولار 17 تريليون دولار، وفى بعض بلدان الشمال، كانت أسعار الفائدة الاسمية حتى على قروض الرهن العقارى سلبية.
كان انفجار نسب الديون غير المستدامة على هذا النحو يعنى ضمنا أن العديد من المقترضين ــ الأسر، والشركات، والبنوك، وبنوك الظِـل، والحكومات، وحتى بلدان بأسرها ــ تحولوا إلى «كائنات حية ميتة» ومفلسة تدعمها أسعار فائدة منخفضة (الأمر الذى أبقى على تكاليف خدمة ديونها تحت السيطرة). أثناء كل من الأزمة المالية العالمية التى اندلعت عام 2008 وأزمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيدــ19)، أُنـقِـذَ العديد من الوكلاء المعسرين الذين كان مصيرهم الإفلاس بفضل سياسات أسعار الفائدة الصِـفرية أو السلبية، والتيسير الكمى، وعمليات الإنقاذ المالى الصريحة.
ولكن الآن، أدى التضخم ــ الذى تغذى على ذات السياسات المالية والنقدية والائتمانية المفرطة فى التساهل ــ إلى إنهاء فجر الموتى المالى ذاك. فمع اضطرار البنوك المركزية إلى زيادة أسعار الفائدة فى محاولة لاستعادة استقرار الأسعار، تعانى الكيانات الحية الميتة من زيادات حادة فى تكاليف خدمة الديون. من منظور كثيرين، يمثل هذا نكسة ثلاثية، لأن التضخم يؤدى أيضا إلى تآكل دخل الأسر الحقيقى وتقليل قيمة أصول الأسر، مثل المساكن والأسهم. ينطبق الأمر ذاته على الشركات، والمؤسسات المالية، والحكومات الهشة المفرطة فى الاستدانة: فهى تواجه زيادة حادة فى تكاليف الاقتراض، وهبوط الدخل والإيرادات، وانخفاض قيمة الأصول، وكل هذا فى ذات الوقت.
• • •
أسوأ ما فى الأمر أن هذه التطورات تتزامن مع عودة الركود التضخمى (التضخم المرتفع المصحوب بنمو ضعيف) . كانت آخر مرة تشهد فيها الاقتصادات المتقدمة مثل هذه الظروف فى سبعينيات القرن العشرين. لكن فى ذلك الوقت، كانت نسب الديون على الأقل منخفضة للغاية. أما اليوم فنحن نواجه أسوأ جوانب السبعينيات (صدمات الركود التضخمى) إلى جانب أسوأ جوانب الأزمة المالية العالمية. وهذه المرة، لا يمكننا ببساطة خفض أسعار الفائدة لتحفيز الطلب.
فى نهاية المطاف، يتلقى الاقتصاد العالمى ضربة قوية بسبب صدمات العرض السلبية المستمرة فى الأمدين القريب والمتوسط والتى تعمل على تقليص النمو وزيادة الأسعار وتكاليف الإنتاج. تشمل هذه الصدمات الارتباكات التى أحدثتها الجائحة فى المعروض من العمالة والسلع؛ وتأثير الحرب التى تشنها روسيا فى أوكرانيا على أسعار السلع الأساسية؛ وسياسة خفض الإصابات بكوفيدــ19 إلى الصِـفر الكارثية؛ وعشرات من صدمات الأمد المتوسط ــ من تغير المناخ إلى التطورات الجيوسياسية ــ التى ستخلق المزيد من ضغوط الركود التضخمى.
على النقيض من أزمة 2008 المالية والأشهر الأولى من جائحة كوفيدــ19، فإن إنقاذ الوكلاء فى القطاعين الخاص والعام بالاستعانة بسياسات كلية متساهلة من شأنه أن يصب المزيد من الزيت على حريق التضخم. وهذا يعنى أننا سنشهد هبوطا اضطراريا حادا ــ ركود عميق طويل الأمد ــ علاوة على أزمة مالية حادة. مع انفجار فقاعات الأصول، وارتفاعات نسب خدمة الديون، وانخفاض الدخول المعدلة حسب التضخم بين الأسر والشركات والحكومات، سوف تتغذى كل من الأزمة الاقتصادية والانهيار المالى على بعضهما بعضا.
من المؤكد أن الاقتصادات المتقدمة التى تقترض بعملاتها الخاصة يمكنها استخدام نوبة التضخم غير المتوقعة لخفض القيمة الحقيقية لبعض الديون الاسمية الطويلة الأجل ذات السعر الثابت. ومع إحجام الحكومات عن زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق لتقليل عجزها، سَـيُـنـظَـر مرة أخرى إلى تسييل العجز من جانب البنوك المركزية باعتباره المسار الأقل عُـرضة للمقاومة. لكنك لا تستطيع خداع كل الناس طوال الوقت. بمجرد خروج جنى التضخم من القمقم ــ وهو ما سيحدث حتما عندما تهجر البنوك المركزية الكفاح فى مواجهة الانهيار الاقتصادى والمالى الذى يلوح فى الأفق ــ سوف ترتفع تكاليف الاقتراض الاسمية والحقيقية بشدة. الواقع إن أكبر أزمات الديون المصحوبة بالركود التضخمى على الإطلاق ربما يمكن تأجيلها، ولكن ليس تفاديها.
النص الأصلى