قسطنطين زريق.. مرجعيّة العرب الجامِعة
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأربعاء 8 يناير 2020 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب أحمد فرحات تحدث فيه عن د. قسطنطين زريق وأهم القضايا العربية التى شغلته ورؤيته لوضع المسيحيين العرب وكيفية تحسينها، ونعرض منه ما يلى..
كنت أزوره دوريّا فى منزله فى منطقة الحمرا فى بيروت، وبناءً على إلحاح بالغ اللّطف منه، للالتقاء بنُخبٍ فكريّة وثقافيّة كانت تجتمع فى كنف ضيافته الكريمة، وتُناقِش أمورا فكريّة وقوميّة ملحّة، تفرضها طبيعة الظروف التى كانت تعصف بلبنان والعالَم العربيّ فى مرحلة الثمانينيّات من القرن الماضى.
وكان د. قسطنطين زريق (1909 ــ 2000) محطّ ثقة كلّ جلّاسه والمُتناقشين معه فى مختلف القضايا التى كانت تُطرح أمامه، وعلى رأسها آخر تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة، والصراع العربيّ ــ الإسرائيليّ، وحال المُجتمعات العربيّة التى لا تُحسد عليها، سياسيّا واقتصاديّا وتنمويّا، فضلا عن الحريّات العامّة والخاصّة، وذلك كلّه من منطلقٍ عروبيّ حضاريّ عميق ومُتجاوز.
ربّما لهذا السبب أسبغوا عليه ألقابا من مثل: «مرجعيّة العرب»، «داعية العقلانيّة فى الفكر العربى الحديث»، «مرشد الوحدويّين»، «العروبى النموذجى»، «فارس الوعى العربى»؛ واللّقب الأخير جاءه، بحسب المفكّر د. رغيد الصلح، بُعيد ذيوع خبر صموده فى بيروت فى أثناء الاجتياح الإسرائيلى للبنان واحتلال أوّل عاصمة عربيّة فى العام 1982.
***
على طول خطّ بيانه الفكرى والحياتى، انشغل د. قسطنطين زريق بالمسألة القوميّة، ونظّر لها، وكَتَبَ فى أفقها، ورَسَمَ فى سياسات توحيد الأقطار العربيّة، وتجديد الوعى العربى، وانبعاث قوى الأمّة من بوّابة العِلم والتكنولوجيا والانخراط المُباشر فى فضائهما، رؤىً وابتكارا. علاوة على التثقيف القومى بوجوهه المُختلفة: التاريخى منه، والثقافى والحضارى، ثمّ مُعالجة شئون الحاضر والمستقبل، والاستفادة من الماضى كقوّة دفْع فى الحاضر والمستقبل، ودائما من خلال ما سمّاه «الوعاء الديمقراطى». ولذلك كانت كُتبه التى ألّفها تندرج بالتتابع وفق سياق العناوين الآتية: «الوعى القومى» (1939)، «معنى النكبة»(1948)، «أيّ غد؟»(1957)، «نحن والتاريخ» (1959)، «هذا العصر المتفجّر» (1963)، «فى معركة الحضارة» (1964)، «نحن والمستقبل» (1977)، «مَطالب المستقبل العربى» (1983)، «ما العمل؟» (1998)... إلخ. ولا عجب، فى المناسبة، أن يُعَدّ كِتابه الأوّل والحامل عنوان: «الكتاب الأحمر» (1933) بمثابة ميثاق خاصّ بالقوميّة العربيّة، والذى على أساسه، كما يقول المفكّر الفلسطينى الكبير أنيس الصايغ، قامت جمعيّات وحركات وأحزاب قوميّة نشأت فى بلاد الشام والعراق، مثل «نادى المثنّى بن حارث الشيبانى» فى بغداد، و«النادى العربى» فى دمشق، و«جمعيّة العروة الوثقى» و«عصبة العمل القومى»، و«حزب النداء القومى»، و«النادى الثقافى العربى» فى بيروت (ولا يزال النادى الأخير ينشط بدأب إلى يومنا هذا).
فى كِتابه «الوعى القومى» يُشدّد قسطنطين زريق على تجذير الوعى القومى وعقْلَنة مَساراته، بخاصّة فى ظلّ الفوضى العارمة التى تجتاحنا عربا، فكلّنا، بحسب رأيه، يشعر بالتيّارات المُختلفة التى تتقاذفنا، وبالنزعات المُتباينة التى تتجاذب نواحى حياتنا، وكلّنا يحسّ هذا الهيجان الفكرى العاطفى الذى طغى علينا، والذى وزّعنا فرقا مُتنازِعة، وأحزابا مُتناحرِة، لا تعرف لها هدفا بيّنا أو غاية صريحة.
فى مثل هذه المَوقف الدقيق، يترتّب على مفكّرى الأمّة وقادتها، بحسب د. زريق، أن يُواجِهوا هذه الفوضى بعقلٍ هادئ، وقلبٍ مُطمئِن، ويعمدوا إلى تحليل عواملها، والكشف عن مَنابعها، ومَصادرها الخفيّة، وأن يتطلّعوا من خلال أمواجها المُتلاطمة إلى الأُفق البعيد، ليتبيّنوا قبس نور يهتدون به، وشاطئا أمينا يقودون الأمّة إليه. ذلك هو واجبهم، وتلك هى رسالتهم، فإنْ لم يقوموا بهذا الواجب، ويُترجموا تلك الرسالة، فسيكونون فى حُكم الجانى على أمّتهم جناية لا تُغتفر.
ومن منظور د. زريق، أنّ العامل الأكبر فى هذه الفوضى الصاخبة على المستوى العربى، يعود إلى فقداننا الشعور القومى الصحيح الذى من شأنه أن يُوحِّد جهودنا، ويُنظِّم قِوانا الروحيّة، ويفيض على نفوسنا صفاءً واطمئنانا. ولقد يُعجب البعض من هذا الأمر، إذ يلتفت حواليه، فيرى شئون الأمّة العامّة على كلّ لسان، يتحدّث بها الكبير والصغير، والغنيّ والفقير، ويسمع أسماء قادة الأمّة وزعمائها تتردّد فى المجالس الخاصّة، والمَحافل العامّة، ويلمس فى جوّ البلاد اهتزازات وتيّارات مفعمة بمظاهر القوّة والحياة. أفننكِر بعد هذا كلّه الشعور القَومى، وسريانه فى قلوب الأمّة ونفوسها؟!.
فى وضعيّة المسيحيّين العرب
جدير بالذكر، أنّه وعلى الرّغم من سلسلة الهزائم التى مُنينا بها عربا، وثقافة الإحباط التى أصابتنا، ولا تزال تصيبنا، ظلّ د. قسطنطين زريق مُتفائلا بالمستقبل، وبتلكم الوحدة الضروريّة التى ستبنيها أجيالنا المُقبلة. إنّه يوقن بأنّ العرب، وكما استطاعوا فى العصور الغابرة أن يهضموا مدنيّات اليونان والرومان والفرس والهند ويمتصّوها بعقولهم النشيطة، ونفوسهم الظمأى، ثمّ يخرجوها إلى العالَم وحدةً مُنسجِمة، غنيّة المادّة، باهرة اللّون؛ كذلك ستكون مهمّة العرب فى الأعصر الآتية، أن يتشرّبوا عِلم الغرب، ويجمعوا إليه العناصر المُختلفة التى تنشأ فى الغرب والشرق كردّ فعل له، ويؤلّفوا بينها كلّها فى وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المُقبلة، يفيض بها العرب على العالَم، كما فاضوا عليه بعلومهم وآدابهم وفلسفاتهم ومدنيّتهم الباهرة فى القرون الماضية.
من جهة أخرى، وعلى مستوى المسيحيّين العرب، ليس قسطنطين زريق وحده مَن تكلَّم فى الوجه القومى أو العروبى العميق والأصيل لهؤلاء، بل ثمّة مفكّرون عرب مسيحيّون كثر تكلّموا فى الموضوع، ومن مَوقع انتمائى هُووى حضارى خالص، وعلى رأس هؤلاء: الأبّ جرمانوس فرحات، وناصيف اليازجى، وإبراهيم اليازجى، والأبّ أنستاس الكرملى، ومارون عبّود، وأمين الريحانى، ود. أدمون ربّاط، والمطران جورج خضر، والأبّ إلياس زحلاوى وغيرهم.. وغيرهم ممَّن تحدّثوا عن تجذُّر المسيحيّين فى أرض الجزيرة العربيّة كلّها، وليس فى شمالها فقط.
ومن الملفت القول إنّ د. قسطنطين زريق كان يتعامل مع موضوعة المسيحيّين العرب، ليس من مَوقع المسيحى الأقلّوى فى مقابل المُسلم الأكثرى.. أو العكس، وإنّما من مَوقع أنّهم جزء لا يتجزّأ فى التاريخ والحاضر (وبالطبع فى المستقبل) من المجتمع العربى الواحد، لهم ما له وعليهم ما عليه.
لكنْ، وعلى الرّغم من ذلك يقول د. زريق إنّ مشكلة المسيحيّين العرب، هى مشكلة تَشترك فى مسئوليّتها الأكثريّة والأقليّة، ولا يُمكن أن تُحَلّ حلّا سحريّا جذريّا إلّا بتحوّلاتٍ جذريّة فى الجانبَين معا.
وإنّ فى مقدّمة هذه التحوّلات، الإقبال على بناء مجتمع قومى على أساس مصلحة الشعب ومُنجزات العِلم والحضارة والمساواة القانونيّة والعمليّة بين المُواطنين، والعدالة بين فئاتهم وطبقاتهم، والتحوّل من «تسييس» الدّين إلى تقصّى جوهره الروحى رابطة حيّة بين المرء وخالِقه ومَنبع فضائل ترقى كيان الإنسان وتغنى عطاءه الوطنى والحضارى.
ثمّ إنّ الانسجام المطلوب فى المجتمع العربى الجديد الذى على أساسه وحده يُمكن أن تُبنى قوميّة صحيحة، لا ينفى التعدّديّة، ولكنّه يستبدل بالتعدّديّة الطائفيّة، تعدّديّة التوجّهات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة فى جوّ من الحريّة السليمة والديمقراطيّة الشامِلة.
ولا بدّ من اقتناع الأكثريّة بأنّ مسئوليّتها تتضخّم بضخامة حجمها، وأنّ ميزتها تقوم آخر الأمر، لا على الكمّ، بل على النوع، أى على رقيّ الإنسان وتقدّمه وتحرّره، فهُما الضامن الأقوى للانسجام الاجتماعى، وبالتالى القومى المنشود.
وعلى الأقليّة، فى المُقابل، أن توقن أنّ سلامتها وحيويّتها لا تُضمَنان بحماية من الخارج، بل بتقوية مناعتها الذاتيّة المُستمَدّة هنا أيضا من نوع الإنسان الذى تُمثّله، وبتمتين جذورها فى مُجتمعها، وإغناء عطائها له.
ويخلص د. قسطنطين إلى أنّ الحديث عن المسيحيّين العرب والمستقبل، يفتح قضيّة العرب بكاملها، وقضايا المُستقبل بمجموعها. على أنّه ينتهى، آخر الأمر، كما ينتهى أيّ تحرّ صادق، إلى تحدّ شخصى لكلٍّ منّا. يقول المثل الفرنسى: «قلْ لى مَن تُعاشِر، أقلْ لكَ مَن أنتَ».. ألا فلْيُسائِل كلٌّ منّا نفسه، فى أيّ جبهة يَقف؟ وأى اتّجاه مُستقبلى يَختار؟ وبأيّ اقتناعٍ وعزمٍ يُقدِم على هذا الاختيار؟
إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تُحدّد قيمتنا كأفراد، مُسلمين ومسيحيّين، وتُقرِّر كما يردف د. زريق، مدى صلاحيّتنا (كأمّة) للتقدّم والرقى، بل لمجرّد البقاء فى المستقبل الآتى.
على ما تقدّم أقول، إنّ كلّ مَن عرف د. قسطنطين زريق عن قرب، كان يجد فيه تلكم القامة المهيبة الطافرة بالفكر والمعرفة. والأفكار عنده، أى فى كُتبه جميعا، تتميّز بقوّة الربط والإحكام المنهجى ونجاعة الأسلوب وانسيابيّة اللّغة. إنّه يعرف كيف «يقصّ» عليكَ أفكاره.. هكذا، بلا تكلّف ولا تأنّق ولا التماس إلّا للعقل وقوّة منطق العقلانيّة.