حرب غزّة.. هل غيَّرت العالَم فعلا؟
العالم يفكر
آخر تحديث:
الإثنين 8 يناير 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب حسين جواد قبيسى، يوضح فيه كيف قسمت حرب غزة العالم بين مؤيد ومدافع عن القضية الفلسطينية ومؤيد للبربرة الصهيونية؛ كذلك أظهرت لنا تلك الحرب زيف بعض المؤسسات الإعلامية الغربية واستغلال تقنيات الذكاء الاصطناعى مثل برنامج «نمبوس» Nimbus الذى أنتجته «جوجل» لصالح إسرائيل... نعرض من المقال ما يلى:
أوليس من إحدى العجائب أن الحرب الدائرة فى غزة قسمت العالم بين مؤيد لغزة ولقضيتها الفلسطينية وإنسانيتها وعدالتها، ومؤيدٍ للهمجيّة الصهيو ـ أمريكية؟ عندما نطق وزير الدفاع الإسرائيلى «يوآف جالانت» ــ بوصفه «حيوانا ناطقا» ــ بعبارة «حيوانات بشريّة» أعطى إشارة البدء بإبادة الشعب الفلسطينى. تماما كما فعل داعموه عندما أبادوا شعوب أمريكا الأصليين. من بعيد، من سحيق قرون غابرة كانت فيها البشرية المتوحشة ترى بعضها بعضا حيوانات بشريّة تيسيرا للقتل والإبادة، انبعث صوتُ هذا الزعيم بأنّه يعتلى قمّة ما يُسمّى حضارة الزمن الغربى، ناطقا بأخلاق الحيوانات.
صمود أهل غزة الأسطورى فى وجه أعتى بربرية عرفها تاريخ البشرية، قسَمَ العالَمَ، لا بين شرق وغرب أو بين دول مؤيدة ودول مناوئة، بل بين حكومات الدول وبين شعوبها، وهذا من طبيعة النظام العالمى القائم على تحكم مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى والبنوك ومصانع السلاح ومُختبرات الأدوية بمقدرات الشعوب ومصائرها، والقائم على تغليب المصالح الاقتصادية والمالية على مبادئ الحق والعدالة. وليس من المبالغة فى شىء القول إننا نقف اليوم أمام إحدى اللحظات التاريخية التى تغير مجرى التاريخ، وإن كنّا لا نراها اليوم بالوضوح الكافى لأنّنا من داخلها، ونَحتاج إلى مسافة وقت لرؤيتها عن بعد بالوضوح اللازم. منذ بعض الوقت انقسم الشعب الأمريكى بين مؤيد لدونالد ترامب ومُناوئٍ له، وكاد هذا الانقسام السياسى الزائف يؤدى إلى حرب أهلية أمريكية. أمّا الانقسام الحاصل اليوم، لا فى الولايات المتحدة وحدها، بل فى جميع الدول الغربية، وفى العالم، فهو الانقسام الصحى الصحيح.
• • •
غيّرت حرب غزة العالم، وشحنت الفكر بأوكسيجين جديد، استرد به المفكرون أنفاسهم بعد اختناق قارب حوالى نصف القرن، لم يظهر فيه سوى «الفلاسفة الجدد» (برنار هنرى ليفى وألن فلكنكرو وأندريه غلوكسمان...) الذين نصّبوا أنفسهم فلاسفة ودمّروا الفكر الفلسفى بجعْل الفيلسوف صحافيا وبوقا إعلاميّا يُساند إسرائيل، و«المسيحيون الجدد» (دونالد رامسفيلد، جورج بوش، كولن باول، كونداليزا رايس، ستيفن هادلى، ديك تشينى...) الذين دمّروا دولا عربية وأمريكية جنوبيّة وإفريقيّة بأكملها، وخلقت حرب غزّة مناخا فكريا ساعد المُتلعثمين العرب على النطق بما كانوا يخشون قوله، أو يتردّدون فى قوله، فبات يسيرا على رجال القانون أن يقولوا: إنّ ما كان النظام الدولى يُحيط به نفسه من حقوق إنسان ومنظّمات أُمميّة وعدالة وديمقراطيّة، لم يكُن سوى سلاح يصطاد به سذاجة الشعوب الضعيفة، ولم يكُن سوى نظامٍ صُنِع خصّيصا بعد الحرب العالميّة الثانية لخدمة المُنتصِرين. كما بات بمكنة السياسيّين الذين كانت الصهيونيّة تُعبِّد لهم الطريق للوصول إلى كراسى الحُكم أن يتحرّروا من الوصاية الصهيونيّة، وبات مُمكنا للمثقّفين والكتّاب الذين كانوا يرتزقون من صحافة الصهيونيّة العالَميّة و«شقيقاتها» فى العالَم، أن يستردّوا شيئا من كرامتهم بقول كلمة حقّ وكتابتها، ولو مرّة واحدة قَبل موتهم.
• • •
منذ أوائل القرن العشرين أنشأ بعض اليهود أمثال وورنر وماير وفوكس مدينة هوليوود التى امتلكت صناعة السينما والإعلام، واختصَّت بإنتاجِ أفلامِ رُعاة البقر (الكاوبوى) من أجل قلْب الصورة رأسا على عقب وجعْلِ الغازى الأوروبى هو الحضارى، وأصحاب الحضارات الراقية، هُم الوحوش، وراجَ نِتاجُها على صعيدٍ عالَمى، فصدّروا تلك الصورة إلى بلادنا وجَعلونا نُعجَب بالمُثل العليا والإنسانيّة لدى أبطال هذه الأفلام (جون واين، غارى كوبر، هنرى فوندا...) وزَرعوا فى رءوسنا جيلا بعد جيل، صورةَ «الهندى الأحمر» المتوحّش. ومعلومٌ أنّ المشروع الصهيونى كان قد بدأ فى تلك الفترة بالضبط ينتقل إلى حيّزِ التنفيذ.
منذ ذلك الوقت وصناعة الكذب هى دين السينما والإعلام وديدنهما، بغية إسباغ صفة الحضارة على الغرب الاستعمارى، ونزْع تلك الصفة عن شعوبنا العربيّة والإسلاميّة، وشعوب آسيا وإفريقيا كافّة، وحَصْرها فى أوروبا «الأنوار»، علما بأن عصر الأنوار الأوروبى بالذات، كان كالقمر بوجهَين: وجه مُضىء فى أوروبا، ووجهٌ كالِح معتِم حمَلَ إلى باقى العالَم الهمَّ والغمَّ والاستعمار والاستعباد. وجهان، على الرّغم من تناقُضهما، يتكاملان لِما فيه مصلحة الداخل الأوروبى الاستعمارى. فالإصلاح السياسى والرخاء الاجتماعى والازدهار الاقتصادى فى الداخل، لم يتحقق بفضل فلسفات مفكّرى الأنوار السياسيّة فقط، بل بفضل الخيرات والثروات المنهوبة من الخارج.
تطوّرت صناعةُ الكذب التى لم تعُد أوروبيّة الاسم، بل غدا اسمها «صناعة الكذب الغربيّة»، بعد توزُّع الأوروبيّين بين أوروبا وأمريكا، فاتّخذت تلك الصناعة شكل ما سُمّى إعلام وصحافة، برّر وجودها فى أول الأمر أنها «سلطة رابعة» فى وجه السلطات الثلاث، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى بوقٍ لتلك السلطات، وداعم للسلطات الاستعمارية، باستثناء قلّة منها بقيت ضعيفة التأثير ومهمَّشة. فعلى سبيل المثال: فى الشهر الماضى جرى فى إسكتلندا حفلُ توزيع جوائز فى صناعة السينما، وكانت تغطّيه بى. بى. سى نيوز للتلفزة؛ وألقى عددٌ من الفائزين كلماتٍ أيّدوا فيها فلسطين؛ وشدَّد أربعةٌ منهم على ضرورة الوقف الفورى للإبادة الجارية فى غزّة وباقى الأراضى الفلسطينيّة المحتلّة. لكن حين نَشرت بى. بى. سى نيوز تسجيل ذلك الحفل على الإنترنت، حَذفت هؤلاء الأربعة من البث، وحَذفت الرسائل التى وجهوها. ولم يلحظ أحدٌ هذا الحذف. لكنّ الذين حضروا حفل التتويج لاحظوا عندما شاهدوا الفيديو، أنّ تلكم الرسائل المؤيِّدة لفلسطين قد حُذِفت بأكملها.
انقسامٌ بين متمسّكين بمبادئ الإنسانيّة والخُلق الحَسن، وبين مَن يريدون تغيير وجه العالَم الإنسانى تغييرا جذريّا، وقد واتتْهُم الوسيلة الفضلى لذلك: الذكاء الاصطناعى. فالأوروبيّون وامتداداتهم فى الإسرائيليّين والأمريكيين، لا توحّدهم صلابة النظام الرأسمالى ووحشيّته الآخذة فى إفقار البشر أكثر فأكثر فقط، بل يوحّدهم أيضا احتكارُهما سائر تكنولوجيّات الذكاء الاصطناعى واستخدامها فى استعباد العالَم وإخضاعه للرقابة الشاملة والصارمة، وتمزيق شرعة الحرّيات وحقوق الإنسان، بما فيها حقّ تقرير المصير وحريّة التعبير، ولكن، كيفما كانت نهاية حرب غزّة، وأيّا كان الشكل الذى ستئول إليه هذه الحرب، سيبقى العالَم مقسوما، وستستمرّ الحربُ بين مُعسكرَيْن واتّجاهَيْن: اتّجاهٌ نحو استعباد العالَم بقيادة الصهيونيّة العالَميّة أو عَوْلمة الصهيونيّة، أى حُكم العالم بديكتاتوريّة المال واستبداد الذكاء الاصطناعى ببرامج الرقابة، ولاسيّما برنامج «نمبوس» Nimbus الذى أنتجته «جوجل» من أجل إسرائيل التى تَستخدمه لمراقبة الفلسطينيّين، حتّى داخل منازلهم، ضدّ اتّجاه تحرير البشريّة من نير ديكتاتوريّة المال والتفلُّت من براثن العبوديّة الجديدة.
النص الأصلي