«الحى العربى».. وعود الغربة الكاذبة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 8 فبراير 2019 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
«لا تكتب إلا عما تعرفه».. شعار رفعه الكاتب الأمريكى الأشهر «إرنست هيمنجواى»؛ كتاب الستينيات فى مصر اعتبروا ما قاله هيمنجواى قانونا واجب النفاذ. خاض كل منهم تجربته مسلحا بما يعرفه، ولم يكتب واحد منهم إلا عما يعرفه فعلا.
والروائى المصرى المقيم فى كندا، أسامة علام، من الكتاب المخلصين الذين يؤمنون بصدق مقولة «هيمنجواى»؛ ومن التلاميذ المخلصين للمدرسة المصرية التى رادها يوسف إدريس، وتخرج فيها المنسى قنديل، ومحمد المخزنجى..
أسامة علام لا يكتب إلا عما يعرفه؛ وهو فى هذه الرواية تحديدا لم يكتب إلا عما عرفه وخبره بصورة كبيرة ولافتة؛ عن حصيلة الخبرات والممارسات الإنسانية والحياتية التى خاضها فى مصر وكندا، فرضت تجربته كطبيب وباحث أكاديمى مهاجر إلى بلاد الغرب البعيد أن تشكل هذه الخبرة النواة الصلبة التى تحلقت حولها كتابته السردية منذ عمله الأول وحتى روايته الصادرة أخيرا عن دار الشروق «الحى العربى»..
بعد خمس روايات كاملة لا يغادر علام أبدا ملعبه الأثير وفضاءه الحميم، إنها «كندا» أرض المهجر والأحلام والوعود الكاذبة. يعمل أسامة طبيبا وباحثا علميا بإحدى الجامعات الكندية منذ سنوات طويلة؛ ومن الطبيعى جدا أن يكتب عن مدينة كندية مثل مونتريال مثلما فعل فى روايته «الاختفاء العجيب لرجل مدهش»، التى تناولت أيضا عالم المهاجرين من الأجانب، غير عرب، أما فى «الحى العربى» فإنه قرر أن يكون موضوعه عن المهاجرين العرب بالذات.
ينسج أسامة علام أحداثا لا ينقصها التشويق ولا إيقاع السرد المتوازن؛ وتقوم على فرضية «خيالية»؛ ماذا لو استقلت الجماعات العربية المهاجرة فى كندا عن الحكومة المركزية الكندية؟ وماذا يحدث لو ترك لها العنان كى تدير أمورها وشئونها بمعزل عن النظام السياسى والنسق الثقافى الحضارى الكندى بكل ما تشكل فى إطاره من تقاليد وأفكار ونظم تحكم هذه البقعة من العالم، وتنظم العلاقة بين أفراده فى إطار من الدستور والقانون؟ ماذا يحدث لو استقلت تلك الجماعة العربية المهاجرة عن ذلك النظام؟
تبرز الرواية باقتدار معاناة الغربة الشرسة. إنها جرح لا يندمل ولا يرجى الشفاء منه. أغلب من هاجر حلم بالهرب إلى الجنة الموعودة، ليكتشف أنه عار على شاطئ ينظر له الناس باستغراب؛ يمكنك أن تقرأ بين السطور هذا المعنى المهاجر ضحية كذبة يكذبها مجتمعه عن عظمة الغرب اللا متناهية، وضحية كذبة أخرى يكذبها هذه المرة الغرب نفسه عن أحقية المهاجر فى المواطنة الكاملة.
وبين كذبتين يخدعك الأمل فى الثراء والتحقق ويربطك أولادك ببلد لن يفهم معنى أن تتمايل طربا لموسيقى لا يستطيع احتمالها. وسينظر لك من تبقى من أهل وأصدقاء لك نظرة تميز مضحكة عند نزولك لزيارتهم.
هذا ما تتعرض له الرواية بذكاء وعمق وبساطة وسلاسة ممتنعة؛ الفكرة مدهشة وذكية للغاية، والبناء محكم ومتماسك ومكثف، والشخصيات رسمت ببراعة وبقدر كبير من التعاطف والأمانة مع تناقضاتها البشرية وإخلاصها لضعفها الإنسانى.
ثمة موهبة بادية وبراعة فى رسم عوالم خيالية تذكرك بحكايا الكوميكس والتشويق الملازم لها، وبروايات الساردين المحترفين فى أمريكا اللاتينية، حياة الغربة والمغتربين والهجرة والمهجر هى شاغله وانشغاله، أسامة علام ممن يتقنون صنعتهم، لا تفلت خيوط الفكرة أبدا من بين يديه، رغم إغراء الخيال الجسور.
أما اللغة؛ سردا وحوارا فهى سلسة وبسيطة، وتخلو من تعقيدات وغموض التشكيلات اللغوية الحديثة، من دون أن تخلو من ومضات متألقة تتوهج بشعرية وكثافة، ودون أن يكون ذلك شغلها الشاغل؛ وهذا ما يجب على الكاتب أن يراعيه ويلتفت إليه.
هذا العالم (عالم المغتربين، والمهاجرين العرب) مجهول بنسبة كبيرة للقارئ المصرى، صحيح أن ثمة أعمالا كتبت فى المهجر بلغات أجنبية غير العربية، وترجمت إليها، لكن يظل ما كُتب عنها بالعربية قليلا؛ ويظل ما يعد أصيلا منها ومهما ويمثل قيمة فنية وإنسانية «أقل» بدرجة كبيرة.
الرواية فى مجملها مكتوبة بوعى يقظ وتفصيلات جميلة وآسرة، يقدم فيها المؤلف صورة صادقة وأمينة ومخلصة، أبعد ما تكون عن الدعاية أو التهويل أو التهوين، أو التشويه، كتابة متميزة تستحق القراءة والتأمل.