عيش وملح مع البشير
عماد الدين حسين
آخر تحديث:
الأحد 8 مارس 2009 - 3:21 م
بتوقيت القاهرة
فى أواخر عام 1994، زرت الخرطوم وعدة مدن سودانية أخرى.. قابلت الرئيس عمر حسن البشير أكثر من مرة.. فى القصر الجمهورى بالعاصمة، وفى إحدى المدن جنوب الخرطوم بحوالى 300 كيلومتر، شاهدت مشروعات زراعية مصرية، كما قابلته فى عزاء لأحد القادة الذين استشهدوا خلال المعارك بجنوب السودان.
خلال اللقاءات الثلاثة والمحاورات أكلت «عيش وملح»، وبالأحرى «عيش ولحمة» مع الرئيس ومعظم أركان حكمه، خصوصا حليفه فى ذلك الوقت حسن الترابى قبل أن يحدث الطلاق بينهما.
بعيدا عن السياسة وقتها، فإن البشير شأن غالبية السودانيين إنسان طيب، مبتسم طوال الوقت، مضياف، يحب مصر، لكنه يكره نظرة المصريين التقليدية للسودان. رقص خلال الجولة بعصاه الشهيرة، ورقص معه مئات الآلاف الذين تم حشدهم بنفس طريقة الحشد التى تحدث فى العالم الثالث.
لكن أهم صفاته كانت البساطة، ولا أنسى أننى كنت داخل حافلة تضم الوفد الصحفى المصرى تسير على كورنيش الخرطوم، وإذ بى أرى البشير يقود سيارته التى تشبه اللادا، وعندما قلت لمرافقى الكاتب الصحفى موسى يعقوب بدهشة: هل هذا هو البشير؟ أجاب بنعم مستغربا دهشتى.. فالأمر فى السودان مختلف، فالبشير قد يختلف مع المهدى أو الميرغنى أو الترابى، لكن الجميع يتزاورون ويتصاهرون، إضافة إلى أن ثقافة تصفية الحسابات السياسية بالعنف ليست متجذرة فى السودان.
عدت من السودان، وجرت فى الأنهر مياه كثيرة طوال الخمس عشرة سنة الماضية، صرت أكثر إيمانا بالأفعال لا الأقوال، أقدر «العيش والملح»، لكن تقديرى لحقوق الناس خصوصا الغلابة والمقهورين منهم أهم.
أدرك تمام الإدراك حقيقة الاستهداف الأمريكى والغربى للسودان ولكل الأمة العربية، لكننى لا أؤمن بنظرية المؤامرة، لأن الأعداء أكثر وضوحا تجاهنا ولا يحتاجون لمؤامرة، باعتبار أننا أكثر عداوة لأنفسنا.
كثير من حكامنا ومسئولينا هم أكثر عداوة لشعوبهم من الأعداء أنفسهم، وبالتالى لا أستطيع فهم قيام حاكم باضطهاد جزء من شعبه، وعندما يهاجمه الخارج يصرخ «الحق مؤامرة».
سيقول كثيرون إن هناك ازدواجية فى المعايير، وأن مجرمى الحرب فى تل أبيب لا أحد يحاسبهم، والإجابة هى نعم، لكنهم أكثر قوة منا، وأكثر سيطرة على مفاصل كثيرة فى الغرب، ومن البلاهة ألا ندرك ذلك، ونظل نردد أسطوانة «الحقوق».. الغرب لا يفهم ذلك.. يفهم فقط القوة.
أشعر بالتعاطف مع البشير بحكم «العيش واللحمة»، إضافة إلى أن العملية فى معظمها تصفية حسابات دولية وإقليمية، لكن ربما كان الشىء الإيجابى الوحيد أن قرار أوكامبو بإصدار مذكرة توقيف البشير قد يردع بعض الحكام الموغلين فى تعذيب شعوبهم دون رادع.