ولاية بايدن الرئاسية الأولى.. أم الثالثة لأوباما؟!
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 8 مارس 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
ليس بالأمر المألوف فى السياسة الأمريكية أن يتعاقب ذكر رئيس سابق، أو يتوالى ظهوره فى محافل ومناسبات تتصل بشئون الحكم، كتشكيل إدارة جديدة عقب انتخابات رئاسية لم يكن من بين مرشحيها، أو أن يثور جدل بشأن تقلده أية مناصب بإدارة لاحقة، أو أن توصف ولاية لرئيس جديد بأنها امتداد لفترة حكم رئيس أسبق. لكن صحيفة «الجارديان» البريطانية، رصدت فى تحقيق مطول بعنوان «ظل أوباما يلاحق بايدن»، مظاهر العودة المثيرة للرئيس الأسبق إلى المعترك السياسى والمشهد الإعلامى، على أجنحة الحملة الرئاسية لبايدن، بعدما توارى عن الأنظار، أو كاد، طيلة فترة ترامب الرئاسية اليتيمة. وفى معرض تسليطها الضوء على تأهب دول العالم للانبعاث «الأوباماوى»، عرجت الصحيفة لطروحات رهط من المراقبين حول طغيان طيف أوباما على أداء بايدن الرئاسى. لاسيما وأن الأخير كان نائبا للأول، فيما قد يضطره الالتزام بمبادئ الحزب الديمقراطى، اللذين ينضويان تحت لوائه، إلى المضى على دربه فى سياستيه الداخلية والخارجية.
تاريخيا، لم تشهد التجربة السياسية الأمريكية سوى سابقة فريدة لتجاوز النص الدستورى الخاص بعدم أحقية الرئيس المنتخب فى أكثر من ولايتين رئاسيتين متتاليتين. فقد ظل الديمقراطى فرانكلين روزفلت، رئيسا لولايات أربع متتابعة خلال الفترة من 1933 وحتى 1945، وسط ظروف محلية ودولية بالغة الخصوصية، جاء فى صدارتها الكساد العظيم، والحرب العالمية الثانية. ففى يناير 1932، وبينما كان الأمريكيون يصارعون أعنف أزمة اقتصادية فى تاريخهم الحديث، فاز روزفلت بأولى ولاياته الرئاسية، بعدما حصل على 57% من الأصوات. وفى عام 1936، ساعدته نجاته من محاولة اغتيال فاشلة، على نيل فترة ثانية، إثر انتزاعه 61% من الأصوات، ليعاود الحزب الديمقراطى ترشيحه للمرة الثالثة عام 1940، فيحصد 55% من أصوات الناخبين، ويغدو رئيسا للمرة الثالثة على التوالى. وبحلول العام 1944، وبعدما آتت تحذيراته للناخبين من العواقب الوخيمة المحتملة لتغيير الرؤساء فى أوج الحرب الكونية أكلها، اقتنص روزفلت 53% من الأصوات، ليحظى بولايته الرئاسية الرابعة والأخيرة، والتى لم يمكث فيها سوى 83 يوما فقط، حيث ترجل فارس السياسة المغوار، بعدما هزمه المرض فى أبريل 1945.
إبان الماراثون الرئاسى الأخير، تبدى الحضور الطاغى لأوباما، سواء من خلال تصريحاته وأنشطته الدعائية المناصرة للمرشح الديمقراطى بايدن، أو عبر إصرار الأخير على الاستعانة بالرئيس الديمقراطى الأسبق لمشاطرته المؤتمرات الانتخابية ومصاحبته فى اللقاءات الجماهيرية بولايات شتى. وخلال المؤتمر الوطنى العام لحزبهما فى أغسطس الماضى، ثم فى سياق حملة تعبوية أطلقها بعدها بشهرين عبر «يوتيوب»، ناشد أوباما جموع الناخبين التصويت لبايدن. وفى ثنايا تحركاته الميدانية للدعاية له وسط صفوف الشباب والملونين وذوى الأصول الأفريقية، طفق أوباما يكيل الانتقادات اللاذعة للمنافس الجمهورى ترامب ونهجه المربك فى إدارة البلاد، مستحضرا فشله فى مواجهة جائحة كورونا، ومنددا بما أسماه «انعدام الكفاءة والتضليل»، معربا عن قلقه على مستقبل الديمقراطية، محليا وعالميا، مع وجود رئيس «يألف الكذب».
ما كادت تنحسر الشائعات حول نيته الاستعانة بأوباما وهيلارى كلينتون فى إدارته الجديدة، حتى أقدم بايدن على تطعيم فريقه للسياسة الخارجية، والبيت الأبيض والمعترك الاقتصادى، بعدد ممن عملوا معه وقت أن كان نائبا للرئيس أوباما. كما عين «كورت كامبل»، مؤلف كتاب «The Pivot» عام 2016، الذى يتناول نقل الولايات المتحدة مركز استراتيجيتها من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، مستشاره للشئون الآسيوية، مثلما كان فى إدارة أوباما، ثم روبرت مالى، الذى عمل مستشارا للسياسة الخارجية بالإدارة ذاتها وعضوا بفريق التفاوض حول الاتفاق النووى مع طهران، مبعوثه الخاص للشأن الإيرانى. ومثلما سبق لأوباما تدعيم طاقمه بعسكريين سابقين، كما شخصيات جمهورية بارزة، عمد بايدن إلى إسناد بعض المواقع فى إدارته لكوادر جمهورية، أملا فى ترميم التصدعات التى ضربت اللحمة الوطنية الأمريكية على خلفية السباق الرئاسى الأخير، وما تمخض عنه من استقطاب حاد.
بينما أخفق أوباما فى تنفيذ تعهده عام 2008 بإغلاق معتقل جوانتانامو خلال العام الأول من ولايته الرئاسية الأولى، جراء عوائق عدة، أبرزها «قانون إجازة الدفاع الوطنى»، الذى أقره الكونجرس عام 2011، متضمنا قيودا صارمة على تخصيص الموارد العامة لعمليات تسليم سجنائه لبلدانهم أو نقلهم إلى الولايات المتحدة لمحاكمتهم، فى حين قرر ترامب خلال حملته الرئاسية لعام 2016، إبقاء المعتقل «مفتوحا ومليئا بالأشرار»، أعلن بايدن أنه سيتحرى أفضل السبل الكفيلة بإغلاقه قبل انتهاء فترة رئاسته الأولى.
لم يجد أوباما غضاضة فى الاعتراف، ضمن مذكراته، بمجابهة وابل من العراقيل التى أعاقته عن تنفيذ برنامجه الانتخابى، كما حالت دون إحداثه التغيير، الذى وعد به ناخبيه واتخذ منه شعارا لحملته الرئاسية. فلقد أقر الرئيس الأسبق بإخفاقه فى تحقيق اختراق ناجز لأوساط الأمريكيين البيض، الذين دأبوا على انتقاده، فيما ناصبه الكونجرس، بمجلسيه، العداء، ولم يتوانَ عن تقويض سياساته وإجهاض مشاريعه، فى الوقت الذى أبى «حزب الشاى» المتنفذ داخل الحزب الجمهورى، والمتغلغل فى المجال العام، حينئذ، إلا محاصرته، فى مؤشر واضح على عدم تقبل طيف واسع من الأمريكيين لاعتلاء مواطن من أصول أفريقية رئاسة بلادهم؛ ومن ثم، كان تنادى هؤلاء جميعا للتحالف ضده كفيلا بتقييد تحركاته وحرمانه من بلوغ مراميه. ورغم ذلك، لم يتورع أوباما، الذى يمنعه الدستور من التماس ولاية رئاسية ثالثة بعد فوزه بولايتين متتاليتين عامى 2008 و2012، عن الإدلاء باعتراف آخر أكثر إثارة، خلال مقابلة لشبكة «سى بى إس» الأمريكية، مطلع ديسمبر الماضى، حينما أكد افتقاده للرئاسة ومهامها التى وصفها بالرائعة، وتمنى مازحا، أن تواتيه فرصة للظفر بفترة رئاسية ثالثة، ولو من وراء حجاب، بحيث يكون هو الرئيس الفعلى الخفى، بينما يبدو فى الواجهة رئيس شرفى آخر يأتمر بأمره.
برغم الشواهد الساطعة على مزاحمة أوباما لبايدن عرسه الرئاسى، لم يألُ الرئيسان الأسبق والحالى جهدا فى التقليل من ارتداداتها على سياسات الإدارة الجديدة. فمن جهته، أكد أوباما فى رده على سؤال صحفى عقب إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بشأن حدود الدور الذى قد يمارسه وحلفاؤه عندما يتولى نائبه السابق بايدن مهامه الرئاسية، أن مؤازرته للرئيس بايدن، الذى لا تنقصه الخبرة أو الكفاءة، لا تستتبع بالضرورة تدخلا فى عمله، أو تأثيرا فى توجهاته وسياساته.
بدوره، لم يفوت بايدن فرصة إلا وفند تراهة تحول ولايته الرئاسية الأولى إلى ثالثة لأوباما. فسياسيا، شدد على أن عودته للاتفاق النووى الإيرانى لعام 2015 سترتهن بما أسماه «الاشتباك السلمى للإيرانيين» فى ملفات ثلاثة: البرنامج النووى، البرنامج الصاروخى، والتدخلات الإيرانية فى العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة! أما عسكريا، فمثلما شكل استهداف إدارة ترامب لقاعدة الشعيرات الجوية السورية فى أبريل 2017، منعطفا نوعيا فى استراتيجية واشنطن حيال الأزمة السورية، لجهة إشهار الطلاق غير الرجعى مع «عقيدة أوباما»، التى تجنبت عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط، بغير مبرر استراتيجى ملح، أتى تنفيذ إدارة بايدن أولى عملياتها العسكرية، بتوجيه ضربة جوية الشهر الماضى ضد «مجمع قاعدة الإمام على» التابع للميليشيات المدعومة إيرانيا على الحدود السورية العراقية، ردا على استهدافها الصاروخى لقاعدة للتحالف الدولى بمطار أربيل قبلها بأيام، ليبرز رغبة بايدن فى الخروج من عباءة أوباما، الذى استنكف معاقبة بشار الأسد على انتهاكه «الخط الأحمر» الأمريكى باستخدامه الأسلحة الكيماوية ضد معارضيه عام 2013.
استنادا إلى شعار «التوظيف الحكيم للقوة العسكرية»، الذى تضمنته وثيقته الاستراتيجية الجديدة للأمن القومى، اتسمت أولى ضربات بايدن الجوية بسمات أربع: فكانت «ضرورية» لاستعادة الردع، عبر الحيلولة دون تعرض قوات أمريكا وحلفائها لأية هجمات مستقبلا. كما جاءت «دفاعية»، لتقويض بنى تحتية عسكرية تستخدمها الميليشيات الموالية لإيران، ثم «متناسبة» مع العدوان الذى اقترفته تلك الميليشيات، فيما أتت «محسوبة»، إذ انحاز بايدن إلى أهون الخيارات الانتقامية التى طرحت عليه، بما يجبر طهران على تقليص سقف تطلعاتها حيال مرونة الإدارة الأمريكية الجديدة، ويردعها عن توسيع هامشها للمناورة حال استئناف المفاوضات النووية. كما يحول، فى الوقت ذاته، دون تفاقم المواجهات بسوريا والعراق، أو خروج الوضع الملتهب بالإقليم ككل عن السيطرة.