كشف زيف مقولة عنصرية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 8 مارس 2023 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
تصريحان ملفتان للنظر: فعندما انتهت ولاية الرئيس الأمريكى الشهير السابق، الجنرال إيزنهاور، حوالى منتصف القرن الماضى اعترف للشعب الأمريكى، باستسلام المحبط الملىء باليأس، بأن الذى يحكم أمريكا فى الواقع ليس رؤساء الدولة، وإنما يحكمها، ثالوث الأمن والاستخبارات أولا، والاقتصاد والمال، ثانيا، والإعلام ثالثا.
فيما بينهم يكون الثلاثة الدولة العميقة التى تدير وتهيمن، وتعاقب وتجزى، وتراقب كل حركة.
جاء الآن المناضل الاشتراكى البريطانى جيرمى كوربن، الذى كان مرشحا شبه مؤكد لأن يكون رئيس وزراء بريطانيا، لولا أن الدولة العميقة اعترضت عليه وشوهت سمعته واستعملت أموالها ونفوذها المحلى والدولى لإسقاط كل آماله فى رئاسة حزب العمال البريطانى أولا، ومن ثم فى أن يصبح رئيس وزراء. نشر هذا الاعتراف اليائس الحزين من قبله على شبكات التواصل الاجتماعى، وصفا واحتجاجا وقنوطا، للقدرات التسلطية التى تملكها الدولة العميقة فى بريطانيا ولهيمنتها الهائلة على الحياة السياسية هناك.
فى دولتين عريقتين إلى أبعد الحدود فى تبنى النظام الديمقراطى وممارسته عبر مئات السنين، يكشف لنا رئيس دولة وقائد أساسى فى حزب تاريخى متجذر، يكشفان لنا زيف وهشاشة وما وراء أقنعة النظامين الديمقراطيين فى كلا البلدين.
هذا الكشف، الذى من المؤكد يخاف الحديث عنه الألوف من قادة السياسة فى كلا البلدين، يجب أن يقود إلى مناقشة الأحجية التاريخية التالية: هل هناك فرق بين الدولة العميقة التى تلبس رداء الديموقراطية المظهرية، من انتخابات، إلى برلمانات، إلى استقلال لسلطاتها الثلاث، وإلى رأى عام مستنير مستقل، إلى أحزاب تخدم مصالح الشعوب ولا غير الشعوب إلخ... بينما هى فى الواقع تدير البلاد باستبداد ورشاوى وشراء ذمم سياسية وإعلامية، وذلك لخدمة مصالح أقلية متحكمة ومتنفذة، هل هناك فرق بينها وبين ما ظل الغرب طيلة القرون يردده بشأن الشرق، وهو أن الشرق قد حكمه طيلة تاريخه السلطان المستبد، سواء باسم القبيلة أو العائلة أو العساكر أو جهات خارجية؟ ويضاف بأن الشرق وحده لديه قابلية للخضوع وللتعايش مع الاستبداد؟
ما الفرق بين استعمال أنواع الهيمنة والتسلط على كل شىء الذى ميز السلطان المستبد فى الشرق، وبين استعمال كل أنواع الهيمنة والتسلط على كل شىء الذى تمارسه الدولة العميقة فى الغرب من وراء حجاب الديمقراطية، كما وصفه أيزنهاور وكوربن؟
يوما بعد يوم يتبين أن الاستبداد السلطانى الشرقى هو فى الحقيقة توأم مماثل لاستبداد الدولة العميقة الغربية، ويوميا تصدر الكتب والمقالات، ويصرح ذوو الضمائر، عن أن ديمقراطية الغرب قد تراجعت وغدت ألعوبة ووسيلة وتمثيلية تستعملها بدهاء أقلية غربية للسيطرة على وعى وعقول الشعوب من أجل إقناعها بأن امتيازات تلك الأقلية ومكانتها وسلطاتها وشتى أشكال جشعها وسرقاتها هى شرعية حصلت عليها بوسائل ديموقراطية قانونية تحكمها ممارسات الأخذ والعطاء والتراضى ومتطلبات الحقوق الطبيعية، بل وأحيانا حتى الأقدار الإلهية، ومن ثم فهى امتيازات وممارسات شرعية.
فى كتابه «خارج الدمار» يصف جورج مونبيوت الساحة السياسية فى أمريكا بأن جملة النظام السياسى الممارس فيها معروض للبيع، وذلك بعد أن يعرض أشكالا من الدعم المالى والإعلامى الذى تتبرع به الشركات والبنوك والأفراد ووسائل الإعلام لإنجاح أعضاء الكونجرس الأمريكى مقابل خدمات يلتزمون بتقديمها من خلال نوع تصويتهم عند اتخاذ قرارات الكونجرس. وبصوت عالٍ يؤكد أن طبقة الأغنياء والنفوذ فى أمريكا وإنجلترا، المعنى بدراستهما، هى التى تحكم وتتحكم، وأن ما عداها هم ليسوا أكثر من شهود زور.
لسنا معنيين هنا بأوضاع الحكم فى مجتمعات الغرب، فهو موضوع بالغ التعقيد ويعنى فى الدرجة الأولى شعوبه. ما يهمنا هو أنه آن أوان كشف زيف ما ظل يردده الغرب على لسان أحد شعرائه عبر السنين بأن «الشرق شرق والغرب غرب»، مشيرا إلى قابليتنا للاستبداد وقابليتهم للحرية، فقد عرت الدولة العميقة فى مجتمعات الغرب زيف تلك المقولة العنصرية المتكبرة.