عزلة الإنسان الحالية وفهم جديد للفردانية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:30 م
بتوقيت القاهرة
قيل وكُتِب الكثير عن التغيّرات الحياتية والفكرية فى مجتمعات العالمِ التى قد تتحقق، وإن بدرجات متفاوتة، بعد أن يصل وباء فيروس الكورونا إلى نهايته. وبُنيت تلك التوقعات على أساس ما يُمكن أن يصلُ إليه الإنسان من قناعات جديدة بشأن بعض الأفكار والسلوكيات والقيم والنظم التى أنشأتها حضارة العصر وقَبِل الإنسان أن يعيش ضمن معطياتها، أحيانا عن قناعة وأحيانا عن إرغام.
من بين أبرز تلك المعطيات التى طُرحت كشعار حياتى، وجُندت الوسائل لإقناع عموم الناس بقبولها وممارستها كنمط حياتى، كان شعار الفردانية المنغلقة على الذات، المحكومة بإملاءات حب النفس الأنانى، غير المعنية بحاجات وظروف الآخرين، مالكة حريتها المطلقة فى التعبير والتصرف، وبالطبع، بل وفى المقدمة، الممارسة للاستهلاك النهم المجنون لكل ما تُنتجه ماكينة الرأسمالية العولمية من بضاعة مادية أو خدمية أو ترفيهية.
مَن أشهَر عن ذلك الشعار كانت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر عندما أعلنَت أنه لا توجد مجتمعات وإنما يوجد فرد: فرد معنى بنفسه أو أصبح ذلك القول، عبر الخمسين سنة الماضية على الأخص، جزءا أساسيا من الثقافة العولمية النيوليبرالية الرأسمالية.
الآن، والبلايين من البشر تنصاع، خوفا وهلعا من زحف ودمار وباء الكورونا، لتوجيهات وقرارات الكثير من الحكومات بالبقاء فى مساكنهم ومواجهة وحدتهم الذاتية ومحدودية حريتهم الشخصية، ألن يقود ذلك إلى البدء بطرح الأسئلة حول الإعلاء المجنون للفردانية والإنزال الغريب لأهمية ومكانة الاجتماع البشرى بمؤسساته ومجتمعاته؟
لا يمكن للعاقلين من أولئك المعزولين فى بيوتهم إلا أن يُلاحظوا كيف أن حدثا كبيرا عالميا، حاملا لأخطار هائلة، غير عابئ بالفروقات الطبقية والاجتماعية والعرقية والحضارية، قد أظهر فى واقعهم اليومى الذى يعيشونه الآن أن المبالغات السابقة فى مدى حرية الإنسان واستقلاليته الفردية وعدم حاجته للغير، وصدقوها، كانت وهما يجب أن يفيقوا منه.
ذلك أن فيروسا صغيرا قد استطاع أن يسلب الفرد منهم ما كان يعتقد أن لا أحد يستطيع سلبه، أى حرية الحركة والذهاب إلى حيث يشاء دون عائف ولا عائق، وجعله يُدرك أنّ حريته تلك مرتبطة أحيانا بحرية الآخرين وأن قراره الفردى محكوم بقرار الآخرين.
فى وحدته، فى عزلته فى بيته، لا بد أن فردانيته عرفت معنى الشوق لجلسة عائلية تسليه، لأصدقاء يبعدون عنه ضجر، ويشاركونه فى مصابه، بينما أدركت أن شبكات التواصل الاجتماعى، ليست قادرة على أن تحل محل ضمة الحنان وابتسامة الإشفاق والتعاطف ودفء النفس وهو ينتشر مع الكلمات والضحك، والتى وحده، الاجتماع البشرى، قادر على أن يأتى بها بردا وسلاما على حياته.
عند ذاك، وإن بشكل غامض، سيشعر ذلك الإنسان بفشل المبدأ الصنم المقدس للفردانية فى إعانته والتخفيف من وحدته وسيدرك أهمية أن يعود إلى الحياة شعار الوجود الجمعى الذى يمثل المصلحة العامة ويعلى من فضيلة التعاضد والتعاون بدلا من رذيلة التنافس التى نادت بها ثقافة الفردانية بهوس ومبالغة.
عند ذاك ستنجلى الأهمية الاجتماعية الكبرى للتوازن بين حرية الفرد وبين انصياعه لإرادة المجتمع وحاجات الصالح العام.
عبر عدة قرون ظلت فردانية الإنسان، تعريفا وهدفا وسلوكا، جزءا أساسيا فى مسيرة تنقلات إنسان الحضارة الغربية المهيمنة على العالم من إعلاء شأن الإيمان، إلى إعلاء شأن القوة الداروينية، إلى الاعتماد الكلى على العقل والعقلانية التقدمية العلمية، لينتهى به المطاف إلى عقلانية السوق والرذائل المصاحبة له. وفى كل مرحلة حاول الإنسان الرسو على فهم موزون موضوعى إنسانى للفردانية، وخصوصا بشأن ارتباطها بقيمتى الحرية والعدالة.
الآن، وقد أثبت وباء الكورونا للإنسان بأن فهمه للفردانية لايزال مليئا بالنواقص والعلل، هناك أمل بأن يفتش الإنسان عن فهم آخر للفردانية: فهم قائم على تشابك وتناغم بين جوانب الحرية والعدالة والتضامن الإنسانى والعقلانية الحكيمة والتواضع أمام جبروت الطبيعة.