شتورا.. صفحة مطوية

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: السبت 8 أبريل 2023 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

فى إطار الاحتفال بأعياد الثورة التى صارت طقسا مراسميا ثابتا منذ يوليو 1952، ألقى الرئيس جمال عبدالناصر خطابه المعتاد فى الإسكندرية يوم 26 يوليو، وهو يوم مغادرة الملك فاروق منها إلى منفاه، وذلك فى إطار الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة عام 1962.
ولما كان هذا الخطاب هو الأول الذى يلقيه عبدالناصر فى عيد الثورة بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة.. الجمهورية العربية المتحدة فى 29 سبتمبر 1961 أى بعد عشرة شهور من هذا الحدث الجلل، كان من الطبيعى أن يرد فيه حديثا عن سوريا. وبمراجعة نص الخطاب الذى ألقاه عبدالناصر فى جامعة الإسكندرية نجد أنه تمحور حول تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق التوعية والتعليم مطالبا من مَن كان له حظ تلقى العلم أن يمد يده لمن هم أقل منه حظا للارتقاء مثله. وفى نهاية الخطاب تطرق إلى سوريا مؤكدا أن مصر ستظل بجانب الشعب السورى فى الإقليم الشمالى فى كفاحه ضد الرجعية.
كان رد فعل سوريا انفعاليا ومتجاوزا الحدود المعقولة، فتقدمت بشكوى إلى الجامعة العربية طالبة عقد اجتماع طارئ لبحث ما وصفته محاولات جمال عبدالناصر قلب نظام الحكم فى سوريا، وأن إشارته إلى سوريا فى الخطاب بأنها الإقليم الشمالى للجمهورية العربية المتحدة هو محاولة لإعادة فرض الوحدة بالقوة عليها، واشترطت سوريا عقد الاجتماع فى أى بلد عربى خارج مصر حيث يوجد مقر الجامعة العربية. وأعلنت سوريا فى نفس الوقت إحباط مؤامرة لقلب نظام الحكم فى دمشق حاكتها السفارة المصرية فى لبنان!
حاول السيد عبدالخالق حسونة، الأمين العام للجامعة العربية، احتواء الأزمة فسافر إلى سوريا لإقناع القيادة السورية بحلحلة الأزمة وعقد اجتماع ثنائى مع مصر إلا أن سوريا تشبثت بموقفها وأصرت على التصعيد.
ثارت مشكلة اختيار مكان الاجتماع بعد رفض عدد من الدول العربية استضافته خوفا من الزج بأنفسهم فى المشكلة، فقد اعتذرت تونس وليبيا عن تنظيم الاجتماع، ورفضت سوريا إقامته فى لبنان لأنها ترى أن رئيسها اللواء فؤاد شهاب يميل إلى جمال عبدالناصر لاعتقاده أنه صاحب الفضل فى اختياره لرئاسة لبنان بعد تدخله لإنهاء الحرب الأهلية التى استعرت فى عام 1958. وأخيرا وبعد ضغوط ومناشدات وافقت سوريا على عقد الاجتماع فى بلدة شتورا اللبنانية على الحدود مع سوريا.
• • •
فاجأ عبدالناصر سوريا بتشكيل الوفد المصرى إلى شتورا من السومريين أكرم ديرى، الذى كان وزيرا للشئون الاجتماعية أثناء الوحدة، وكان واحدا من الضباط الذين ذهبوا إلى القاهرة للمطالبة بالوحدة الفورية مع مصر، وله سمعة طيبة لأنه حارب فى فلسطين ومُنح ترقية استثنائية لشجاعته. ضم الوفد أيضا جادو عزالدين الذى شغل منصب وزير الأشغال أثناء الوحدة، وهو بدوره ضابط حارب فى فلسطين وكان أيضا عضو الوفد العسكرى الذى زار مصر فى عام 1958 لطلب الوحدة الفورية. وثالث أعضاء الوفد كان السفير طلعت صدقى، مدير الإدارة العربية فى الخارجية، الذى استمر بموقعه فى القاهرة بعد الانفصال، أما الرابع فكان توفيق حسن، المدير السابق لإذاعة حلب. وأراد عبدالناصر أن يقول أنه ما زال رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالى والجنوبى. أدى تشكيل الوفد المصرى إلى فرقعة إعلامية وسياسية ضخمة، وردت سوريا على ذلك بفرقعة إعلامية مضادة، وكأن الغرض من الاجتماع ليس تسوية العلاقات بين الطرفين لكنه التنافس على إحداث الفرقعات الإعلامية والسياسية. فأعلنت سوريا انشقاق الملحق العسكرى المصرى فى بيروت، المقدم زغلول عبدالرحمن، ووصوله إلى سوريا ونظمت له مؤتمرا صحفيا فى نادى الضباط حضره قائد الجيش السورى وأحاطته بحملة إعلامية مكثفة مؤكدة أن الضابط المصرى المنشق سيدلى بمعلومات تفضح سياسة مصر التآمرية وتفضح عبدالناصر. وجاء المؤتمر الصحفى مخيبا لآمال سوريا، إذ كان خاليا من أى شىء ذى بال.
لم يكن اجتماع شتورا اجتماعا سياسيا بقدر ما كان منبرا لتبادل الاتهامات بل والسباب والشتائم بشكل لم يسئ لمصر وسوريا فقط بل للجامعة العربية والدول العربية جمعاء.
كما بدأ الاجتماع بالفرقعات الإعلامية والسياسية، فقد انتهى أيضا بفرقعة إعلامية عندما أعلنت الجمهورية العربية المتحدة يوم 28 أغسطس الانسحاب من الجامعة العربية! وانتهى الاجتماع ولم يسفر عن مصالحة بين مصر وسوريا، وإنما أساء للبلدين، ولم تنفذ الجمهورية العربية المتحدة تهديدها بالانسحاب من الجامعة العربية.
• • •
نعود إلى التساؤل عن السبب الذى جعل سوريا تصعد الأمور وتدعو إلى اجتماع للجامعة العربية.
لعل ذلك يرجع إلى هشاشة النظام الانفصالى الذى قام على أكتاف مجموعة من الضباط الذين كان يطلق عليهم الضباط الشوام، يمثلون نخبة فى الجيش من الأسر الدمشقية، وكان هناك رد فعل صادم من إجهاض دولة الوحدة وعمل النظام على إصدار بيان شعبى لتأييد الانفصال. ومن المفارقات أن وقّع عليه أكرم حورانى وصلاح البيطار من مؤسسى حزب البعث الذى دعا إلى الوحدة العربية وشعاره أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة! وبعد أيام صدر بيان من القيادة القومية لحزب البعث فى بيروت تدين الانفصال.
روج مؤيدو الانفصال أن قوانين يوليو الاشتراكية كانت من أسباب سقوط دولة الوحدة لتضرر الشعب السورى منها، إلا أن هناك شواهد بأن الجذور الشعبية فى سوريا كانت مرحبة بالقرارات الاشتراكية التى أفادت الفقراء والضعفاء. ولعل الدوائر الرأسمالية الكبيرة فى سوريا كان لها يد فى تدبير الانقلاب ومنها الشركة الخماسية السورية أكبر تجمع لرأس المال السورى فضلا عن شعور قطاع كبير من الجيش والشعب بالندم والإحباط لإجهاض الوحدة.
بسبب هشاشة موقفهم فى الجيش كلف الانقلابيون سياسيا قديما، هو مأمون الكزبرى بتشكيل حكومة من التكنوقراط لم تستمر إلا لمدة ثلاثة أسابيع، وبدأ الانقلابيون يفقدون السيطرة على الأمور لصالح السياسيين التقليديين القدامى، ومع شعورهم بالعجز أرسلوا وفدا عسكريا برئاسة العميد زهير منير لمقابلة جمال عبدالناصر فى القاهرة يوم 13 يناير 1961، أى بعد أقل من أربعة شهور من الانفصال ليعرض عودة الوحدة بشروط رفضها عبدالناصر.
يتضح من تلك الأزمة التى وجد الانفصاليون أنفسهم فيها وتصرفهم التصرف الكلاسيكى لمواجهة أزمتهم، وهو التلويح بالتهديد الخارجى رغم أن عبدالناصر أعلن فى بيان مذاع يوم 3 أكتوبر 1961 أى بعد خمسة أيام من الانفصال أن الجمهورية العربية المتحدة لن تقف فى طريق استعادة سوريا لمقعدها فى الأمم المتحدة، وقد استعادته فعلا بعد يومين، فى يوم 5 أكتوبر. وظهرت لاحقا هشاشة النظام الانفصالى بسقوطه فى 8 فبراير 1963.
ولعل الفترة التى جرت فيها هذه الأحداث كانت أيضا فترة صاخبة بالنسبة لمصر. فبعد فترة من الإنجازات الناجحة التى أعقبت الثورة منها تحقيق الجلاء الحقيقى الكامل للوجود البريطانى، وتأميم قناة السويس والانتصار على الاعتداء الثلاثى، والنجاح فى الحصول على تمويل للسد العالى، والبدء فى بنائه وكسر احتكار السلاح الغربى، وتدشين حركة عدم الانحياز، بدأت سلسلة التحديات الخطيرة. لعل الانفصال كان أخطرها وكان إسهام مصر النشط فى حرب تحرير الجزائر، الذى كان أحد الدوافع الهامة فى مشاركة فرنسا فى العدوان الثلاثى ودعم مصر لثوار عدن ضد الإنجليز ونقل إذاعة صوت العرب أحداث الثورة فى حى كريتر، ثم كانت ثورة اليمن ودخول الجيش المصرى فى أتونها، وكان التقطب الحاد بين جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم فى العراق بعد أن رحبت مصر بثورة العراق وسقوط حلف بغداد.
• • •
فى ظل هذه الأحداث فى سوريا وفى مصر عقد اجتماع شتورا. لعلنا نتساءل عن جدوى فتح هذه الصفحة التى طويت من ستين سنة. نفتح الصفحات المطوية لنعتبر بالدروس ونستفيد من الأخطاء، ونتساءل هل حل الخلافات يتم من خلال اجتماعات يتم فيها تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة بل وتبادل الشتائم والسباب، وللأسف لم نعِ الدرس وتكررت القصة بعد مضى نحو 30 سنة، فى القمة التى حاول فيها العرب تلافى وعلاج الغزو العراقى الكارثى للكويت، فتبادل الملوك والرؤساء الاتهامات بالخيانة وتبادلوا الشتائم والسباب بل وصل الأمر إلى القذف بأكواب المياه.
كان الانفصال كارثة أجهضت حلم الوحدة العربى شعر بها من قاموا بالانفصال أنفسهم عندما ودعوا ما أسموه وحدة حقيقية تحقق التكافؤ للجميع، ثم توجه وفد لمقابلة عبدالناصر يعرض العودة إلى الوحدة بشروط رفضها.
كان المطلوب اجتماعا هادئا يناقش أسباب إجهاض الوحدة والأخطاء التى حدثت، التى لا يمكن أن ينكرها أحد، لإصلاح المسار بدلا من إجهاض الحلم وزيادة الأمور التهابا إلا أن ما حدث هو مواجهة انفعالية متشنجة لتبادل الاتهامات والسباب وإثارة الفرقعات السياسية والإعلامية، هذا هو المبرر لتدوين التاريخ والرجوع إليه لتمهيد الطريق نحو المستقبل والنجاح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved