ورضوا عنه
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 8 أبريل 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
قد لا يستعصى على السواد الأعظم من المؤمنين إدراك ما يعنيه رضاء الله تعالى عن عباده. بيد أنه قد يتعذر على أناسى كثير الإحاطة بمقصوده، جل وعلا، فى آيات قرآنية عديدة، بخصوص رضاء العباد عن خالقهم.
فى لغة الضاد، ينصرف مفهوم الرضا إلى معنيين: أولهما، لغوى؛ يميل إلى اطمئنان النفس وشعور القلب بالسكينة والهدوء. وثانيهما، فقهى أو شرعى؛ وينحو باتجاه طلب الاستحسان من المولى، عز وجل، وموافقته. وتجتمع فى الرضا شعب الإيمان الستة؛ وهى الإيمان بالله، ملائكته، كتبه، رسله، اليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ويبدأ الرضا عن الله من الإيمان به، التوحيد به، والتصديق فى وجوده خالقا أوحد لهذا الكون، ومدبرا لشئونه؛ ثم الرضا بما يقسمه ويسوقه من القضاء والقدر.
ما إن يكتمل إيمان المؤمن حتى يرضى عن خالقه فى جميع قضائه وقدره. حيث يستتبع ترسيخ الإيمان فى قلب المسلم، واحدة من أجل العبادات الروحية؛ ألا وهى شكر الله، حمده والثناء عليه. وذلك مصداقا لقوله تعالى فى الآية الخامسة والثلاثين من سورة القمر: «نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَاۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ». ومن علامات رضاء العبد عن ربه استقبــاله الابتلاء الإلهى بالطمأنينة والسكينة، موافقة الله فى قدره والتماس رضاه، تقبل ما يناله من ربِّه ولو خالف هواه، دونما تململ أو اعتراض . وفى هذا يقول، أبو الدَّرداء: «إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحبَّ أن يُرضَى به». وتقول رابعة العدوية: «لا يكون العبد راضيًا عن الله إلا إذا كان سروره بالمصيبة يعادل سروره بالنعمة». أما ابن القيم، فيقول: «سمى بعض العارفين الرضا، حسن الخلق مع الله». ويضيف: «يتجلى الرِّضا عن الله، تعالى، فى ثلاثة مواضع: استواء الحالات عند العَبد، سقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح. ذلك أنَّ الرضا الموافق تستَوى عنده الحالات، من النّعمة والبليَّة، فى رِضاه بحسنِ اختيار الله له. الرِّضا عن شَرْعه وحُكمه، تجلت حكمته، بأن لا يَسخط شيئًا ممَّا أنزل الله تعالى، أو ممَّا جاءت بِه الشريعةُ؛ بقدر ما يتعين عليه الانقياد، التَّسليم، والخضوع. فالطَّاعة هى دَيْدنه وِسمته كل حين، آخذا بكل الشريعة دون انتقاء واختيار؛ بحسَب أهواء النَّفس ورغباتها. فإذا رضى عن ربِّه فى جميع الحالات، استقرت قدمُه فى مقام العبوديَّة، فلا يزيل التلوُّن عن العبد شيئا مثل الرضا».
يقول، عز من قائل، فى الآية التاسعة عشرة بعد المائة، من سورة المائدة : «رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». وفى تفسيرها يقول الطبرى :«إن الله، عز وجل، قد رضى عن المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوه عليه، ورضوا عنه. وفى الآية المائة من سور التوبة: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ». وفى تأويلها، يقول بن كثير: «إن الله قد رضى عن المهاجرين والأنصار، الذين أدركوا بيعة الرضوان. ورضاهم عن الله هو رضاهم به ربًا وبالإسلام دينًا وشريعة لهم». وعن مكافأته، سبحانه وتعالى، للذين هاجروا وأوذوا فى سبيله، يقول فى الآية التاسعة والخمسين من سورة الحج : «لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ».
يذهب الإمام، بن كثير، فى تأويله للآية الثامنة والأخيرة من سورة البينة: «رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ"، إلى أن رضا العبد عن مولاه، إنما هو نتيجة مباشرة لرضاء الحق، جل فى علاه، عن عبده. وأن رضـــا العبد عن ربِّه علامة لرضا ربه عنه. ويقول، ابن القيم الجوزية: «تكمن أبرز العلامات التى توضح بجلاء رضا الله، عز وجل، عن عبده، فى رضا ذلك الأخير عن ربه». وفى مؤلفه الماتع "مدراج السالكين"، يذكر الإمام أن ولوج مرتبة رضا الإله يتأتى عبر بابين: أولهما، رضا الله على عبده، بعد ابتلائه ببلاء يرتضيه العبد، ويرضى عن الله فيه. وثانيهما، يأتى تاليا بعد رضا المخلوق عن خالقه، جل شأنه؛ فيما يعتبره ابن القيم الجوزية ثمرة الرضا بقضاء الله. إذ يقول: «فمن رضى عن ربه رضى عنه مولاه؛ ذلك أن رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه. لذلك، كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين».
فى حديث ابن عباس، الذى أخرجه مسلم فى صحيحه، يقول صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِى باللَّهِ رَبًّا، وبالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسولا». وفى الحديث، ربط المصطفى صلى الله عليه وسلم بين الرضا بالله، تبارك وتعالى، وشعب الإيمان الستة. وفيه بيان لإحدى صور الرضا بالله، وهى الرضا برب العزة، تقدست أسماؤه، إلهًا وربًا؛ ولا يرضى الإنسان برب يعبده، إلا وقد رضى عنه باختياره إياه إلهًا. ولقد ورد من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم فى حديث، عمار بن ياسر، الذى أخرجه النسائى: «وأسألُكَ الرِّضاءَ بعدَ القضاءِ». وعن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِى فله الرِّضا، ومن سخطَ فله السُّخْطُ». والمعنى أن الرضا عن الله يجعل المرء يتدبر معنى الإيمان. فالرضا بالله ربًا، يعد أولى شعب الإيمان الست. أما الرضا بقضاء الله، فيجسد شعبة الإيمان الخامسة، المتمثلة فى الإيمان بقضاء الله وقدره، خيره وشره.
فى سفره الماتع «صيد الخاطر»، يذكر أبو الحسن بن الجوزى، أن استقبال نفس المؤمن البلاء العظيم بقلب مفعم بالرضا بما قسمه الله، عز وجل، والسكينة والطمأنينة؛ إنما يعد من العلامات رضاء المؤمن بقضاء ربه، ورضاه عنه، سبحانه وتعالى؛ بما يؤهله لنيل رضاء مولاه عنه فى دنياه وأخراه. أما الإمام ميمون بن مهران، قاضى الرقة فى عهد عمر بن عبد العزيز، ومعلم أولاده، فقال عن الرضا بالله وعنه :«من لم يرض بالقضاء، فليس لحمقه دواء. ومن ثم، فإن ذكر الرضا هنا مرتبط بالرضا بقضاء الله وقدره».
إن رضا العبد عن الله، بما يتضمنه من القبول المطلق بقضائه وقدره، يورث محبته، جل فى علاه، ويفضى إلى رضوانه على عبده؛ عساه يفوز بالجنة ونعيمها، والنجاة من النار وجحيمها. ويعد الرضا عن الله علامة لاكتمال الإيمان؛ وهو من العبادات القلبية، التى تشغل الجوارح، كما تزيد من ثقة العبد بربه. فعلاوة على حديث ابن عباس، الذى يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طعمَ الإيمان: مَن رضِى باللَّه ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ رسولا»؛ يقول ابن القيم: «الرِّضا والمحبَّة حالان من أحوال أهل الجنَّة لا يفارقان المتلبِّس بهما فى الدنيا، ولا فى حياة البَرْزخ، ولا حتى فى الدار الآخرة». ويضيف صاحب المدارج: «الرِّضا مَعقد نِظام؛ الدِّين ظاهره وباطنه. فإذا استعمل العبدُ الرضا فى ذلك كلِّه، فقد أخذ بالحظِّ الوافر من الإسلام، وفاز بالقِدْح المعلَّى .ومَن فاز بالقِدْح المعلَّى، فقد دخل جنَّة الدنيا، التى هى مقدِّمة جنة الآخرة . إن رِضا العبد عن ربِّه، سبحانه وتعالى، فى جميع الحالات يُثمر رِضا ربِّه عنه. فإذا رَضِى عن ربه بالقليل من الرِّزق، رضى مولاه عنه بالقليل من العمل؛ وإذا رضى عنه فى جميعِ الحالات واستوَت عنده، وجَدَه أَسرع شىء إلى رِضاه، إذا استرضاه وتملَّقه. فتلك أعظم ثمرة؛ أن يرضى الله تعالى عن عبده ،إن هو رِضى عن الله».