إلى النبيل أحمد محمود ابن الإسماعيلية.. لروحك السلام
خالد أبو بكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 8 أبريل 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
فى هذا الأسبوع، أكتب من قلب مثقل بالحزن، أرثى زميل الدفعة، ابن الإسماعيلية، ورفيق السنوات النقية فى كلية الإعلام ــ جامعة القاهرة، أحمد محمود. جئنا إلى كليتنا فى خريف 1997، من محافظات شتى، وجمعتنا المدينة الجامعية. كنا مثل خريطة حيّة لمصر، مصغرة، متآلفة، نابضة بالأمل والحكايات. كانت مصر مجسدة فعلًا فى هذه الكلية العريقة، قبل أن تنشأ كيانات أطلقوا عليها ذات الاسم، ربما لعرقلة قدوم أبناء الأقاليم إلى القاهرة!.
كان أحمد ــ المعروف بيننا جميعًا بـ«أحمد إسماعيلية» ــ من بين تلك الوجوه التى تخطفك بهدوئها، وأدبها الجم، ووداعتها التى تشق طريقها إلى قلبك من دون استئذان. لا أذكر، على مدار أربع سنوات قضيناها معًا، أن رأيت أحمد قد علا صوته أو تجاوز ــ حتى فى مزاحه ــ حدود الاحترام واللياقة المنحوتة نحتًا فى شخصيته. كان يمرّ فى الأمكنة، وفى القلوب، برهافةٍ تشبه ظلًا ناعمًا على جدار الزمن.
كان أحمد قريبًا منى طيلة تلك السنوات البعيدة، التى ما تزال أحلامنا فيها مرسومة على جدران الكلية العريقة والأنيقة معًا. رغم مرور الزمن، ما زالت تلك الأحلام معلّقة كأنها تنتظر عودتنا إليها، وربما كان أحمد هو أحد أجمل وجوه تلك الذكرى.
•••
تخرجنا فى سنة 2001، وسلك كلٌّ منا طريقه. اختار هو مجال العلاقات العامة، وأنا خضت معركتى مع الصحافة. لكن قبل ذلك، وقبل أن تبدأ مغامرات المهنة، انضممتُ إلى القوات المسلحة لأداء الخدمة العسكرية كضابط احتياط. كانت كلية الضباط الاحتياط فى مدينة فايد، بالإسماعيلية، ومن يصل إلى هناك حتمًا يمرّ على سرابيوم.. بلد أحمد. ولا أدرى لماذا، لكن مجرد أننى أقيم فى بلد يسكن فيه أحمد، كان يشعرنى بالأمان. شىء ما فى حضوره، ولو عن بعد، يمنحك الطمأنينة. كأن الأرض هناك أكثر ودًّا لأن أحمد منها.
حتى بعد أن تخرجت، ظل التشكيل الذى أخدم فيه فى عمق سيناء مرتبطًا بسرابيوم، وبمعدّيتها على قناة السويس، وفى مرة، صادفته. كان وجهه البشوش يشعّ سرورًا، كأنما قابلت الدنيا ومن عليها. كنت بزيى العسكرى، وكان هو كما عهدته: نقى السريرة، مشرق النظرة، صادق الفرح.
أحمد من تلك الوجوه التى تنحت حضورها فى القلب والذاكرة، دون ضجيج. كلما أخذتك شواغل الحياة، يأتيك صوته الهادئ، مهنئًا من كل قلبه، على كتاب جديد أصدرته أو منصب صحفى كبير تقلدته. تشعر بالمشاعر الجياشة فى صوته، بصدق التهنئة ونُبل الشعور. كأنما هو الذى حقق هذا النجاح، أو كأن نجاح أحد زملائه هو نجاح له أيضًا. ولم يكن مجاملاً فى ذلك أبدًا. بل كان صافيًا، كما الماء فى مجراه الأول.
•••
فى غربتى فى فيينا حين قرأت منشور الزميل العزيز وابن دفعتنا، وليد أبو الخير ــ حفيد الصحفى العملاق أبوالخير نجيب- عن رحيل أحمد محمود، لم أكَد أصدق. انسال دمعى سخينًا، وانتفضت كل جوارحى على ذلك الشاب الوديع الجميل، الذى يعمر قلبه بالخير لكل الدنيا. سال الدمع سخينًا على أحمد محمود، وعلى أمثاله يسيل الدمع بلا انقطاع. ليس فقط لأنهم رحلوا، بل لأنهم عاشوا بنقاءٍ نادر.
ذكرنى رحيل أحمد المفاجئ والصادم بمن رحلوا من دفعتنا فى بدايات الرحلة. تذكرت أحمد نجم، الذى توفى ونحن فى السنة الرابعة. رغم أنه كان من الدفعة التى تسبقنا، ولم يُوفق فى عام دراسى حتى انضم إلى دفعتنا، إلا أن الوجع لرحيله كان كبيرًا، وما زال يترك ظلاله على القلب.
كان نجم يسكن فى ذات الغرفة مع زميلنا بسيونى الصبيحى، الذى صار صحفيًا مرموقًا فى «آخر ساعة» فيما بعد. فى ليلة حزينة، عاد بسيونى ليجد نجم قد فارق الحياة. ومن مفارقات القدر، أن يكون أول الراحلين من دفعتنا بعد نجم هو بسيونى نفسه.. وما زال الوجع مقيمًا فى جوارحنا حتى اليوم، كما لو أن الفقد لا يريد أن يشبع.
رحل أحمد محمود، وترك خلفه سيرةً عطرة، وذكرى لا تبهت. لم يكن كثير الكلام، لكنه كان كثير القيمة. وكان حضوره هادئًا، لكن غيابه مدوٍّ فى القلب.
إلى جنة الخلد، يا أحمد.. يا ابن الإسماعيلية، الطيب كأرضها، النقى كهوائها.. والسلام أمانة لنجم وبسيونى.