السوق السوداء للأرشيف
محمد بصل
آخر تحديث:
الخميس 8 مايو 2025 - 10:26 م
بتوقيت القاهرة
لن أدلكم على سوق تُباع فيها الوثائق السياسية وتسجيلات اجتماعات الزعماء بالعملة الصعبة. لا أملك لها عنوانا. أتصور أن السوق السوداء للأرشيف هى البيئة التى تمكّن حائزى الوثائق والمعلومات والبيانات من استغلال بعضها بصورة مجتزأة، بعيدة عن الموضوعية والحِرفية، انتهاء بتكريس «حقائق بديلة».
تتوافر فى مصر كل العناصر اللازمة لسوق سوداء نشطة. دولة كبرى بتاريخها وثقلها الإقليمى ودورها المحورى. وطبقات متراكمة من التاريخ السياسى والاجتماعى، من بين الأقدم تدوينا والأكثر تنوعا فى العالم الحديث، خلّفت رصيدا عظيم الكم والتنوع من الوثائق المطبوعة والمسجلة بالصوت والصورة.
ونظرا لرسوخ البيروقراطية المصرية وتشعبها فى كل أسرة فمن الوارد أن تجد وثائق صادرة من جهات حكومية أو مؤسسات دينية وثقافية على أعلى مستوى من الندرة فى بيوت عادية، آلت إلى حوزة أشخاص لا يعيرونها اهتماما أو يرون فيها وسيلة لتحقيق مكسب سريع.
ثم.. تتمتع مصر بريادة إعلامية مستمرة قادرة على جذب اهتمام العالم العربى ووسائل الإعلام الدولية حتى فى لحظات تراجع وسائل الإعلام السائدة (Mainstream) استنادا إلى حصة هائلة من مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى ومعدلات الاهتمام الكثيفة بالداخل والخارج، ما يخلق طلبا متزايدا على أى مادة أرشيفية من مصر وعنها. تماما كما اعتلى التسجيل المهم الذى نُشر للرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع معمر القذافى صدارة اهتمامات مئات الملايين، مفجرةً نقاشات حول مواقف يتجاوز عمرها 55 عاما، يهرع إليها كثيرون لإعادة استكشاف الماضى، أو فرارا من ضيق مساحات الجدل فى الحاضر.
تسود رؤية سياسية معينة من الدولة أو أى طرف آخر تجاه قضية «ترند»، فيتحرك حائزو الوثائق لاستخراج بعضها حسب الطلب، أو بعرضها وإعادة تدويرها وفقا لاتجاه مسيطر، أو لإرضاء خطاب شعبوى، بغية كسب شعبية لشخصية تاريخية بعينها، أو لإيجاد غطاء تاريخى لموقف حديث.
البلاء قديم. نلمسه - مثلا - فى اختلاف نصوص وسياقات الوثائق المنقولة منذ عهد محمد على باشا، بين ما يورده أمين باشا سامى فى كتابه المهم «تقويم النيل» وترجمة الرسائل والأوامر ذاتها فى «كل رجال الباشا» العمل الكبير للدكتور خالد فهمى، حيث تبين أن الأول كان يستثنى من الترجمة عن التركية عبارات، بل فقرات كاملة، تظهر احتقارا للمصريين، لم تضمها أى من الكتب التوثيقية المنشورة فى عصر الأسرة العلوية، مما يصيب مصداقية تلك المؤلفات فى مقتل، على الرغم من أهميتها للباحثين.
وإذا كانت الدولة قد فتحت أكثر من مرة ديوان محفوظاتها السرى بقصد التأريخ لأسرة محمد على فى عهدى الملكين فؤاد وفاروق، ولثورة يوليو فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات بمعرفة لجنة تشكلت برئاسة نائبه فى ذلك الوقت حسنى مبارك، فقد زادت بمرور الوقت القيود المفروضة على الوثائق الحكومية - لا الرئاسية فحسب - إلى حد اطلاع الباحثين الجادين على النذر اليسير منها، مما سمح بظهور ممارسات السوق السوداء للأرشيف، فانهال حائزوها عليها اجتزاءً بمقص الرقابة أو الغرض، كما حاول بعضهم تحقيق الربح منها، ببيعها إلى جهات أجنبية، أو تسويقها عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى لتحقيق أرباح.
السوق السوداء للأرشيف تقمع ديمقراطية المعرفة بقدر تدميرها للسياق، فيزيد التجهيل وتتنامى الضلالات، وتُعاد صياغة المفاهيم بأقلام قاصرة، وتُرسم «بروفايلات» مشوهة للشخوص والمواقف، حتى تتحول الأكاذيب إلى «معلوم بالضرورة».
معول التشويه الأول هو التعامل الجائر مع الوثيقة التاريخية بالتحريف أو الاقتطاع. ولا يمكن التصدى له إلا من خلال تضافر الجهود الأكاديمية والإعلامية والتصحيح المستمر للشائعات ذات البعد التاريخى والعلمى، ونشر الوعى بأهمية قراءة الوثيقة من مصدرها الأصلى، وارتباطا بالعوامل المؤثرة عليها.
أما المعول الثانى فهو غياب إرادة تطبيق الاستحقاق الدستورى الخاص بالحق فى تداول المعلومات والبيانات، ليس فقط على مستوى إتاحتها والإفصاح عنها وتنظيم سريتها حسب الأهمية والمدة، بل أيضا لوضع قواعد صارمة للإيداع والحفظ وترميم ورقمنة الوثائق وحمايتها وتأمينها من الضياع والتلف.
يتطلب هذا، ابتداءً، توفير الأساس المعلوماتى الكامل والسليم لمواجهة التلاعب المستمر الذى يتخذ أشكالا ممنهجة، مدفوعة بوسائل الذكاء الاصطناعى والتزييف العميق الذى يساعد فى نشر سرديات كاذبة، صكّ مستشارو الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خلال ولايته الأولى تسميتها بـ«الحقائق البديلة». فإلى متى نسمح بتسريبها عبر ثقوب الذاكرة الجمعية؟