حسين حمودة.. نزاهة الناقد ورقى الإنسان
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 8 يونيو 2024 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
(1)
لم تكن حالة الفرح الغامرة التى سادت الأوساط الأدبية والثقافية فى مصر عقب إعلان أسماء الفائزين بجوائز الدولة للعام الحالى، مجرد مناسبة سنوية للقيام بواجب التهنئة للفائزين ومشاطرتهم الفرح وتبادل عبارات الامتنان والتحية فقط. أظن أن الأمر كان مختلفًا هذا العام بإعلان فوز ناقدين وأكاديميين كبيرين فعلا هما الدكتور حسين حمودة الناقد والأكاديمى الكبير والقدير، والدكتور سامى سليمان رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة. والاثنان ينتميان لأعرق قسمٍ علمى لدراسة الأدب والنقد (ولا أتردد فى القول ودراسة الفكر والثقافة والإنسانيات عمومًا) بالجامعة الأم (جامعة القاهرة).
تربطنى بالأستاذين أواصر المحبة والصداقة والتلمذة أيضًا، كلاهما درس لى وكلاهما ربطتنى به علاقةٌ إنسانية تمتد لما يزيد على ربع القرن؛ وكلاهما لعب أكبر الأثر فى تكوينى الفكرى والثقافى، وترسيخ أصول المعرفة النقدية فى مجمل عمليات التفكير والكتابة والنظر والتأمل؛ أو هذا ما أتصوره وأظنه!
وسأبدأ حديثى بحسين حمودة الناقد والأكاديمى المعروف وأحد أهم الأصوات النقدية العربية فى العقود الثلاثة الأخيرة؛ بهدوئه المعتاد ونبراته الرصينة عُرف كأحد أبرز النقاد المصريين والعرب، المتابعين للنتاج السردى (الروائى والقصصى) والشعرى أيضًا، ومن أكثرهم نشاطًا وحيوية يمارس بكفاءة واقتدار مهامه النقدية والأكاديمية وفى المجال الثقافى العام منذ ثلاثة عقود فى مصر وخارجها عبر المشاركة فى الفعاليات والندوات والمؤتمرات النقدية والعلمية فى الجامعات العربية والغربية على السواء. من أهم أعماله كتابه المرجعى عن قصص يحيى الطاهر عبد الله القصيرة، و«الرواية والمدينة ـ نماذج من كتّاب الستينيات»، وكتابه عن متصل الزمان المكان فى روايات نجيب محفوظ، و«ميادين الغضب قراءات فى روايات مصرية وعربية»، وأنا أعلم أن ما نشره من مقالات ودراسات وفصول يمكن أن تجمع فى ما يزيد على الكتب العشرة على أقل تقدير!
(2)
ينفرد حسين حمودة من بين كل أساتذة الأدب والنقد بقسم اللغة العربية (كلية الآداب جامعة القاهرة)، وطوال السنوات التى عرفته فيها وصادقته فيها وتتلمذت عليه وقرأت له، بمجموعةٍ من السمات التى لا أظن أحدًا ممن عرفه يختلف معى فيها أو حولها؛ يعنى - مثلًا - اتسامه بهذا الخلق الرفيع العالى الذى يتعامل به طوال حياته مع الصغير قبل الكبير.
شخص مهذب بكل ما تعنيه الكلمة، عفّ اللسان، ينتقى كلماته وألفاظه بعناية شديدة، فى كتابته النقدية وشهاداته عموما سمو وتعفف عن الإساءة أو التجريح أو التشهير. حتى فى أقصى حالات غضبه وانفعاله من الإساءات المتكررة أو حملات الهجوم على نجيب محفوظ فيما أسميته «موسم الهجوم على نجيب محفوظ» لم يكن أبدا حادا أو انفعاليا أو ينزلق لسانه أو تعبيره إلى لفظ أو تعبير مسىء.. أبدًا. أقصى ما كان يقوم به فى الصميم هو الردّ على الفكرة فى ذاتها لا صاحب الفكرة، يناقشها ويفندها بهدوء شديد، ثم ينسفها من الأساس بمنطق قوى قادر على الإقناع والحجاج والرد!
(3)
أعلم أن شهادتى قد تكون مجروحة فى حسين حمودة، لأنى أحبه وأحمل فى صدرى أطنانًا من الامتنان لهذا الرجل الذى كان أول من استقبلنى بقسم اللغة العربية، وكنت شابا صغيرا خارجًا لتوى من تجربة دراسة لم أوفق فيها وهصرت روحى، وكادت أن تزهقها وأن تقضى علىّ بالكلية! لولا حسين حمودة الذى رأى العكس من ذلك تمامًا! واعتبر أن أى تجربة مهما كان وقعها على الإنسان فهى ليست أكثر من تجربة نتجاوزها ونبدأ بعدها بداية جديدة بدافع التخلص من الآثار السيئة لهذه التجربة أولًا، ثم بالاستناد على ما عمقته فينا من وعى حاد بالظروف والأسباب التى أدّت إلى هذا الأثر، ومن ثم الانتقال إلى فكرة التجاوز والنهوض إلى ما بعد ذلك وأبعد! وأظن أن هذا هو درس حسين حمودة الأهم والأكبر الذى تشربته منه فى حياتى كلها! كان يلازمنى دائمًا نموذجه الفذ وصبره على قسوة الظروف وعدم مواتاة المناخ العام لاستيعاب تألقه وتفوقه ونبوغه.. لا أقول تأخر أبدًا إنما نضج على مهل، واستوعب خبراتٍ بشرية وإنسانية ومعرفية جمة، آتت أكلها طيلة العقود الثلاثة الأخيرة التى صار فيها حسين حمودة من أهم وأبرز بل أغزر النقاد متابعة للنتاج الإبداعى المصرى والعربى على السواء.
(4)
فرحتى لا توصف بفوز «الجائزة التقديرية» باسم حسين حمودة، ويا لفرحة تلاميذه ومحبيه وعارفى قيمته وتاريخه.. تستحق جوائز الدولة حسين حمودة منذ سنواتٍ طويلة، جاءت متأخرة صحيح، لكن لا يهم، فالجوائز تأتى فقط لتؤكد على حضور القيمة.. وقيمة حسين حمودة الإنسانية والأكاديمية والنقدية والمعرفية أكبر وأبرز وأشهر من أن أشير إليها مجرد إشارات.. (وللحديث بقية)