ثرثرة فى حقيبة سفر
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 8 يونيو 2025 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
فى زوايا تلك الحقيبة التى ترافق صاحبها مساحات لما يشبهه أو يشبهها أو هى حقا جزء من ذكريات أو لحظات مرت. هنا حملت ذاك الفستان لتتزين للقاء مع حبيب فى أيام السفر المسترخية فى حضن العشق الممنوع. وهناك بقايا لبنطلون وجاكيت وبلوزة «محتشمة» لأن تلك الندوة رسمية فهناك الحاجة لملبس يشبهها أو لأنك عندما تكونين امرأة، وحتى تستطيعى أن تثبتى آراءك ومواقفك فى مجتمع لا تزال الصور النمطية معششة فى دماغه، فعليك أن تأخذى بضع خطوات وإجراءات وترتيبات لترسمى صورة جادة فى مساحات وفضاءات اقتصرت على الرجال حكرا لزمن طويل.
• • •
ثرثرة الحقيبة ليست فقط عن ملابس وهدايا وما خزنته على مر السفرات والانتقالات المتكررة، بل هى أيضا مخزن للنجاحات والخيبات أيضا. فكم مرة جمعت أجمل ما عندك ورحلتى بخفة النوارس إلى أماكن تبدو بعيدة جدا فى محاولة للتغريد خارج سكون قاتل، فما كان إلا أن عدتِ سريعا لرمى نفس تلك المنمنمات الرقيقة وإغلاق الحقيبة والبحث عن أول مقعد شاغر على الرحلة العائدة إلى ما يمكن أن يكون وطنا مؤقتا أو وطنا هو الآخر طارد، ولكنه الوطن!!!
• • •
ثرثرة الحقيبة هى صوت صاحبها وعطر الأماكن التى زارها، وتجارب عاشها، حتى تلك الجيوب الصغيرة المخبأة فى الزوايا وما لصق بسطحها الخارجى من بقايا ملصقات لأماكن ومطارات وغيرها، ما هى إلا سلسلة محطات تشبه قطار الحياة السريع. والحقائب سر صاحبها أيضا ومستودع أحلامه ومخبأ أسرار القلب والروح.
• • •
ثرثرة حقيبتى، مؤخرا، وأنا ألملم ما حملت من ملابس وأغراض وأحشرها على عجل فى بطن الحقيبة حتى أستطيع أن ألحق أى مقعد على أى رحلة عائدة والأعياد يقولون إنها على الأبواب، وصوت من بعيد يذكرنى بأنه العيد الرابع وغزة تباد وبعضنا يبحث عن نقطة يندس منها الفرح أو يتسلل فى عتمة الزمن. تعرف أن أكثر من مرة تعود من مدن بعيدة على عجل ولا تعرف أسباب استعجالك وجميع «رواد» أو «تجار» الندوات والمؤتمرات مدفوعة الثمن يفضلون استغلال الفرصة لفسحة مدفوعة. وما إن تعود حتى تعرف أنه ربما سبب استعجال العودة إحساس عميق بأن قنابل العدو وأدوات قتله تلاحق أهلك هناك وأنت لا يد ولا حيلة لك فى إنقاذهم كما فى غزة، لا يدق الهاتف وأنتِ تناورين طريقك فى المطار المزدحم، يأتى صوت تلك الصديقة «واينك؟ إسرائيل مهدده تقصف الضاحية والجنوب سمعتى؟». بعد أن تمسكى بحقيبتك وتخلصيها من زحمة الحقائب المتراكمة فوق بعضها البعض وتجرى بها وسط زحمة المسافرين المغتربين العائدين بحقائب مليئة بالخيرات ربما والهدايا، وتصلى إلى الخارج فتأخذى نفسا عميقا قبل أن تبحثى عن ذاك الخبر فيأتيكِ جوجل بالخبر اليقين ويؤكد على التهديد. هى لحظات تعبرين فيها ممرات المطار وتقفزين إلى العربة المنتظرة وما إن تخرج من المطار وهى تجرى سريعا، حتى يشير لها السائق برؤية الأضواء فى سماء الضاحية الجنوبية لبيروت. «عاد الصهاينة لعدوانهم فى يوم وقفة عرفة وليلة عيد الأضحى»، قال بحزن وردد «الناس صارت تلملم كعك العيد وأشياءها الصغيرة وملابس أطفالها الجديدة وترحل فى عرباتها»، رأيناهم على الطرقات واقفين ربما ينتظرون أن يتوقف جنون الصهاينة للحظات فيلملمون بعضهم بعضا ويحملون حقائبهم باحثين عن مكان للجوء المؤقت.
• • •
حقائبهم ليست للسفر، بل للنزوح المؤقت الذى اعتادوه من منزل مهدم إلى شقة مشتركة مع أفراد العائلة الآخرين أو حتى مدرسة هى الوحيدة التى احتضنت بعضهم فى أيام الحروب المتكررة، بل التى لم تتوقف منذ زُرع ذاك الكيان فى خاصرتهم الجنوبية.
• • •
ثرثرة حقائبهم محملة بالدمع والدم وكثير من القصاصات والصور، وهى كل ما استطاعوا حمله قبل أن تصل القذيفة أو الصاروخ حتى لعب أطفالهم، فى كثير من الأحيان، بقيت تحت الركام، ربما لتكون دليلا آخر يضاف إلى مئات، بل آلاف الوثائق فى أدراج المنظمات الدولية بعدد الأطفال والنساء والرجال والأبرياء من البشر الذين استشهدوا أو هجروا نتيجة الحرب المشتعلة عليهم فقط لأنهم رفضوا أن يتركوا أرضهم. كم هى ثرثرة مختلفة بين حقيبة وأخرى.