عندى صديق مجتهد تلقى تعليمه الأول فى مصر والتحق بدراسة الهندسة ثم تركها وغادر لموسكو لدراسة الموسيقى الكلاسيكية وبقى هناك فى أصعب السنوات التى مر بها الاتحاد السوفيتى خلال التسعينيات، وواصل واستطاع أن يجيد العزف على آلة البيانو فى أحد أكبر المعاهد المتخصصة هناك، وحين عاد للقاهرة قبل سنوات أصبح أحد أبرز العازفين فى أوركسترا القاهرة السيمفونى، ونال ثقة عازف عالمى مثل رمزى يس وعمل معه فى المركز الدولى للموسيقى وعزف مع فنانين عرب وعالميين لهم سمعة كبيرة، والموسيقى الكلاسيكية كما نعرف لها معايير فى اختيار العازفين، لأنها تعتمد على البناء فى الزمن وأى خلل فى العزف يؤدى لانهيار عمل الفريق، فلا مجال للخطأ ولا تسامح مع التقصير.
وصديقى هذا بالإضافة لمهاراته فى العزف، موسوعى الثقافة، متعدد المواهب، يجيد كتابة المقالات النقدية عن مختلف الفنون الأدائية، يكتب بلغة بسيطة تقف وراءها معرفة متكاملة، كما عمل بالترجمة ونشر بعض ترجماته الأدبية، وكان شغوفًا بالتمثيل وقدم أدوارًا متميزة مع مخرجين كبار، ثم نشر رواية جيدة كشفت عن موهبة إبداعية وخبرة إنسانية هائلة، لكن تدهور الأوضاع فى مصر دفعه للهجرة واحتراف مهنة جديدة لا علاقة لها بالموسيقى لكنها تمكنه من العيش فى ظروف أفضل مما عاشه هنا.
وتثير قصة صديقى الذى تحرر تمامًا من دراما المصير تساؤلات عن أوضاع العازفين الموسيقيين فى مصر، ففى المجتمعات الراقية يتمتع الموسيقيون وبالذات من يعمل منهم فى مجال الأوبرا أو الموسيقى الكلاسيكية بمكانة اجتماعية فريدة نظرًا لضخامة المبالغ التى تنفق على تعليمهم الذى يعد أحد أبرز أنواع الاستثمار وأكثرها صعوبة.
وعادة ما يقاس تحضر أى أمة بمستوى فرقها الموسيقية الكلاسيكية وهناك فرق ساعدت على تسويق بعض المدن مثل أوركسترا فيينا وبرلين، وخلال الستينيات عندما شرع ثروت عكاشة فى بناء أكاديمية الفنون وتأسيس الكونسير فتوار كان يفكر فى فرص تسويق القاهرة كمدينة متحضرة وهى تقدم نفسها للعالم.
والناظر للمبالغ التى يتقاضاها العازفون فى هذه الفرق فى مصر لا يمكن إلا أن يصفها بـ(المخجلة) فأغلبهم لا يملك حظ عمر خيرت أو شطارته فى تسويق موهبته وما يحصلون عليه شهريًا لا يكفى ثمنًا لوجبة عشاء لخمسة أفراد فى مطعم البرنس بإمبابة، لذلك يضطر معظمهم لدخول المجال التجارى و(النحت) فى بعض الاستديوهات والأفراح الراقية والحفلات الغنائية، وقد تراجع هذا المورد المالى واختفى بعد غزو (الدى جى) ولم يعد أمامهم من خيار سوى الهجرة والبحث عن فرصة أفضل فى بعض دول الخليج التى جذبت بعضهم خلال سعيها لتكوين فرق موسيقية أوركسترات وبناء أوبرات ملكية وأميرية وسلطانية كانت بحاجة لكوادر مؤهلة كان من الصعب العثور عليها عربيًا من أى بلد غير مصر.
وللأسف تفقد القاهرة ثرواتها الفنية فى هذا المجال تدريجيًا ليس فقط بسبب الهجرة وإنما نتيجة لتراجع مستوى التدريس فى أكاديمية الفنون التى كانت المورد البشرى الرئيسى لفرق الأوبرا وهى مسألة جديرة بالاهتمام خصوصًا ونحن نقرأ من حين لآخر عن نوايا مزمعة لتأسيس أكثر من دار للأوبرا فى بورسعيد والأقصر والعاصمة الإدارية الجديدة وهى أفكار مهمة للمستقبل لكن الأهم منها الآن هو الالتفات لأوضاع العازفين ومستوى أجهزة الصوت فى قاعات الأوبرا والمناهج التى يتعلمها الدارسون فى أكاديمية الفنون التى تحتاج لمعجزة لتقف على أقدامها من جديد.
وبما أننا فى زمن لا يعرف المعجزات فسوف أعود لقصة صديقى والدافع لتذكرها الآن وأنا أقرأ تقريرًا صحفيًا عبرت فيه مغنية الأوبرا الروسية، آنا نيتريبكو، عن غضبها من خبر نشرته مجلة فوربس الشهيرة بعد أن وضعت اسمها على رأس قائمة بأعلى الموسيقيين دخلًا فى روسيا.. وقد نشرت المجلة أن نيتريبكو تصدرت القائمة بدخل يبلغ 7.5 مليون دولار سنويًا. وهو مبلغ قد يزيد بكثير عما يتقاضاه كل عازفى فرق الأوبرا، بمن فيهم صديقى الذى هجر مهنته ويظهر لى اسمه مجددًا كمحرر لخبر كهذا على موقع وكالة الأنباء الروسية.