دبلوماسية الحبوب والمعضلة الغذائية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 8 أغسطس 2022 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
تتويجا لشهرين من المحادثات المضنية، بوساطة تركية ورعاية أممية، وقعت روسيا وأوكرانيا، فى اسطنبول، يوم 22 يوليو الماضى، اتفاقا لاستئناف صادرات الحبوب والأسمدة العالقة فى موانئ البحر الأسود الأوكرانية، عبر ممرات آمنة نحو مضيق البوسفور التركى، ومنه إلى الأسواق العالمية، بإشراف أمنى أممى وتركى. وبعدها بأيام معدودات، افتتحت تركيا مركزا لتنسيق عمليات استئناف الشحنات، التى انطلقت أولاها مطلع الشهر الجارى.
خطوة للأمام، شكلها الاتفاق، الذى يعتبره الأمين العام للأمم المتحدة، فريدا من نوعه بين دولتين متحاربتين. فبينما تمخض عن تراجع تدريجى فى الأسعار العالمية للحبوب، يتوقع خبراء زيادة كمية القمح الأوكرانى الممكن تصديرها، إلى 75 مليون طن، منها 20 مليونا كانت مُخزنة فى الصوامع. لكن، ولعديد عوامل، يظل الاتفاق، الذى يبلغ مداه الزمنى 120 يوما، قابلة للتمديد، غير كاف لمقارعة معضلات أمن الغذاء العالمى.
لسوء الطالع، لا تزال نيران الحرب الروسية الأوكرانية، متأججة. فيما يمكن لتطوراتها الميدانية المثيرة تحويل الاتفاق إلى مجرد حبر على ورق. وبجريرة العقوبات الغربية على موسكو، انتفضت أسعار الأسمدة بواقع خمسة أضعاف، بعدما قفزت تسعيرة الغاز الضرورى لإنتاج النيتروجين، المستخدم فى صناعة سمادى الأمونيا واليوريا، إثر انكماش إمدادات الطاقة الروسية للقارة العجوز. ويبقى اتفاق اسطنبول محاطا بالشكوك فى إمكانية صموده أو تجديده. إذ لم تمض ساعات على توقيعه، حتى اتهم الأوكرانيون روسيا باستهداف ميناء أوديسا بالصواريخ. ورغم تبرؤ موسكو من أية هجمات تطال الأعيان المدنية، سارعت الدول الغربية بإدانتها. وكذلك فعلت الأمم المتحدة، التى تؤكد تقديراتها عدم وجود أفق زمنى واضح وقريب لانتهاء هذه الحرب.
بوازع من فجوة الثقة المزمنة والمتعاظمة، تتخوف كييف من اتخاذ روسيا «دبلوماسية الحبوب»، ستارا، تسعى من ورائه لتقويض قدرات أوكرانيا فى استعادة السيادة على سواحلها، عبر حرمانها من الدعم العسكرى الغربى. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية شهرها السادس، حمل وزير الخارجية الأمريكى، الرئيس الروسى مسئولية المآسى العالمية، جراء إصراره على احتلال أوكرانيا. فى المقابل، نفت موسكو إشعال عمليتها فى أوكرانيا أزمتى الغذاء والطاقة. وأرجعت الأمر إلى تداعيات جائحة كوفيد ــ19، والاستراتيجية الأوروأمريكية للتحول فى الطاقة، إضافة إلى تخبط سياسات الاقتصاد الكلى للدول الغربية، علاوة على رد الفعل الغربى غير المتناسب، حيال العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، والمتمثل فى تكبيل موسكو بعقوبات، غير مسبوقة، أربكت سلاسل الإمداد الغذائية، بعدما رفعت أسعار النقل والتأمين، وحاصرت أقنية التعامل المالى. ودونما مواربة، رهنت موسكو التزامها تنفيذ وتجديد اتفاق اسطنبول، بتحرير صادرات الأسمدة والمنتجات الزراعية الروسية من ربقة العقوبات الغربية.
بدورهم، يشكو أصحاب الشركات والمزارع الأوكرانيون، عجزهم عن مباشرة أنشطتهم الزراعية.حيث أضحت أدوات إنتاجهم من أراضٍ، ومعدات، وبذور، وأسمدة، وعمال، ومخازن حبوب، واقعة على خطوط المواجهة المتعددة، أو ضمن الأراضى المحتلة من قبل روسيا. كما بات جل الأراضى الزراعية الأوكرانية، محاصرا ما بين استحالة الوصول إليه، أو صعوبة الاستفادة منه. فهو إما مثخن بالألغام، أو فى قبضة الاحتلال الروسى، أو القوات المدعومة منه. يأتى هذا فى الوقت الذى تضاعفت كلفة إنتاج القمح ثلاث مرات. ولما كانت إهراءات الحبوب فى مرمى القصف، أو مسرحا للعمليات، أو تحت الاحتلال، افتقدت أوكرانيا القدرة على تخزين عشرات الملايين من أطنان الحبوب المكدسة، كما أخفقت فى تشوين أو بيع حصاد العام الماضى، أو تخزين محصول العام الحالى، أو حتى غرس البذار لمحصول العام المقبل. وقد بلغت كلفة الأضرار المباشرة التى لحقت بقطاع الزراعة الأوكرانى زهاء 4.5 مليار دولار، فيما قٌدرت الخسائر غير المباشرة، الناجمة عن انحسار الإنتاج، وتعذر التصدير، بقرابة 20 مليار دولار. فى غضون ذلك، حذر الرئيس زيلينسكى، من انخفاض إنتاج محصول الحبوب الأوكرانى من 86 مليون طن العام الماضى، إلى 48.5 مليون فقط هذا العام.
ما برحت قضية نقل الحبوب تمثل إشكالية معقدة. فعلى وقع الحرب، تصاعدت أزمات سلاسل التوريد، وتقطعت السبل بنحو ألفى بحَار، على متن 94 سفينة شحن عالقة فى الموانئ الأوكرانية. وتشير بيانات «المنظمة البحرية الدولية»، إلى بقاء نحو 450 بحارا فقط على متن 80 سفينة منها، تحتاج جميعها إلى مزيد من البحارة لنقل الشحنات، بعد إجلاء معظم أفراد طواقمها. وهو أمر يبدو مستعصيا، فى بيئة قلقة، وتعوزها ضمانات أمن الأطقم البحرية. ففى منتصف الشهر الماضى، صنفت اللجنة الحربية المشتركة، وسوق لندن للتأمين، المياه الأوكرانية والروسية فى البحرين الأسود وآزوف، بوصفها بؤرا عالية الخطورة. الأمر الذى يفاقم أقساط تأمين شحن ونقل البضائع عبر هذه المياه، كما يعقد مشاكل الوقود، وتجهيز الأطقم. ولايزال بحارة كثٌر يحجمون عن السفر إلى المنطقة، قبل الاطمئنان إلى إجراءات تأمين السفن أثناء اجتيازها الممر الآمن، وإرشادها لتلافى الألغام البحرية. فمنذ تفجرها فى 24 فبراير الماضى، أودت الحرب بحياة اثنين من البحارة التجاريين، كما تسببت فى غرق اثنتين من أصل سبع سفن تجارية قبالة الساحل الأوكرانى. كذلك، لقى قطب تجارة الحبوب الأوكرانى، ومؤسس إحدى كبريات شركات إنتاج وتصدير الحبوب، أوليكسى فاداتورسكى، وزوجته، حتفهما، إثر قصف لمدينة ميكولايف.
لم يفلح إنكار موسكو وأنقرة، فى تفنيد الاتهامات الأوكرانية والغربية، التى تلاحقهما منذ اندلاع الغزو الروسى لأوكرانيا، بالاتجار غير المشروع فى القمح الأوكرانى، الذى تهربه روسيا من الأراضى الأوكرانية المحتلة، إلى تركيا وسوريا. حيث أظهرت صور أقمار اصطناعية أمريكية، قيام موسكو بنقل معظم الحبوب من شرق أوكرانيا، بالشاحنات، إلى ميناء سيفاستوبول، ثم إلى شبه جزيرة القرم. ولم يتورع القباطنة الروس عن إيقاف تشغيل أجهزة أنظمة التعريف الآلية لسفن الشحن قبل دخولها الميناء، حتى لا يتسنى تتبعها، أو كشف بيانات الهوية الخاصة بها أثناء تحميلها بالحبوب المسروقة. وفى منتصف مايو الماضى، أرسلت الولايات المتحدة تنبيها إلى 14 دولة، تناشدها عدم التعامل مع سفن الشحن الروسية المحملة بالحبوب الأوكرانية المهربة.
بموازاة الحرب الروسية الأوكرانية، لا تفتأ تحديات عديدة تلقى بظلالها على الأمن الغذائى العالمى. فمن تداعيات جائحة كورونا، إلى أصداء التغيرات المناخية، وما يواكبها من كوارث التصحر، والجفاف، وندرة المياه، وارتفاع أسعار الأسمدة، وارتباك السياسات الزراعية، ونقص العمالة، وتعاظم كلفة الإنتاج والتصدير، والتى أسهمت جميعها فى تقليص كمية القمح الذى تنتجه كبريات الدول المعنية حول العالم. ناهيك عن استمرار الهدر الغذائى، واستخدام المحاصيل الغذائية ونباتات الأعلاف فى إنتاج المواد اللازمة لتصنيع الوقود الحيوى. وتناغما مع «نظرية مالتوس» بشأن عدم تناسب النمو السكانى مع تطور الموارد، أعلنت منظمتا «الصندوق العالمى للطبيعة»، و«غلوبال فوتبرنت نتوورك»، غير الحكوميتين، أن يوم 28 يوليو 2022، هو الموافق ليوم «تجاوز موارد الأرض»، الذى تكون فيه البشرية قد استهلكت كل الموارد التى تستطيع النظم البيئية بكوكبنا تجديدها فى عام واحد. فى حين سيفوق الاستهلاك البشرى خلال ما تبقى من السنة الجارية طاقة هذه الموارد. حيث سيعتمد استهلاكنا الموارد المتجددة على قضم رأس المال الطبيعى للكوكب، مع تجاهل احتياجات الأنواع الأخرى التى تشاركنا إياه.
وبحسب توقعات برنامج الأغذية العالمى، سوف يهوى ذلك الوضع بنحو خمسين مليون شخص فى براثن المجاعات القاتلة. وبينما كانت استراتيجية الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، تنشد القضاء على جميع صور انعدام الأمن الغذائى، وسوء التغذية حول العالم، بحلول عام 2030، لوحظ تنامى نسبة الجوع عالميا، خلال العام الماضى بنسبة 18%. ولعل هذا ما دفع الأمين العام للمنظمة الأممية، للتحذير من تأجيج الحرب الأوكرانية مآسى غير مسبوقة من الجوع والفقر، قد تخلف وراءها فوضى اجتماعية، واضطرابات سياسية واقتصادية، وربما نزاعات مسلحة، تستتبع بدورها موجات عاتية من النزوح والهجرة الجماعية. من جانبهم، لا يرى المزارعون الأوكرانيون منجاة من هذا الكابوس، سوى انتهاء الحرب، وعودة المزارع إلى أصحابها، وإصلاح البنية التحتية، وإزالة كل الذخائر والمقذوفات غير المنفجرة من الحقول، وإعادة الموانئ الأوكرانية إلى سيطرة كييف، وتطهيرها من الألغام، وإنهاء الهيمنة الروسية المنفردة على البحر الأسود.
عن تشككها فى جدوى اتفاق اسطنبول، أعربت دوائر دولية عديدة، أبرزها المنظمة الإنسانية «ميرسى كوربس». فمع افتقاد وسيطه التركى، وراعيه الأممى، أية سلطة مُلزمة، أو آليات زجرية ضاغطة على طرفيه المتقاتلين، باستثناء تحديد وإعلان الطرف المنتهك له، لن يتسنى للاتفاق كبح جماح التدهور الكارثى المتواصل فى أمن الغذاء العالمى. ذلك الذى تتخطى وطأة معضلاته، حدود الحرب الروسية الأوكرانية، بما يستوجب تحركا جماعيا لمجابهتها. بحيث تتضافر الإرادات الجادة، والجهود الحثيثة، من لدن حكومات وشعوب العالم قاطبة، للإقلاع عن عسكرة وتسييس قضايا الغذاء والطاقة، ونبذ الصراعات وسباقات التسلح. وتحرى السبل الكفيلة بإقرار السلم والأمن فى ربوع المعمورة. مع اتخاذ ما يلزم من تدابير للحفاظ على التنوع البيولوجى، وتقليص الانبعاثات الغازية الضارة، واستبقاء التوازن البيئى.