الإبداع والتفرغ
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
قبل قرابة عقدين من الزمن، وبحكم عملى آنذاك فى الصحافة الثقافية، كانت تجمعنى بعدد من المبدعين الصاعدين فى مجال الكتابة القصصية والشعر والرواية لقاءات دورية نتحدث فيها عن الحراك الثقافى ومنشورات الساحة الأدبية وآخر إنتاجاتهم فى مجال الإبداع الكتابى، كان الجميع دون استثناء يربط بينهم شغف مذهل تجاه مواهبهم، ورغبة جامحة فى تطويرها إلى أقصى حد، كانت حياتهم تتمحور حول موهبتهم وهاجسهم فى التألق والنجومية. اليوم وبعد هذه السنوات الطوال أخذت أتأمل تلك التجارب والأسماء والمواهب الفذة التى كنت أعرفها فوجدت إنتاجهم الإبداعى قد ذبل تماما، والأغلب منهم يعزو ذلك لارتباطات الحياة اليومية، وعلى رأسها الوظيفة التى أخذت تقتات على الوقت والاهتمام والجهد حتى استهلكت معظمه، ولم تبقَ فى أدمغتهم المزدحمة بمتطلبات العمل، تلك المساحة البيضاء التى يزدهر فيها الإبداع.
تذكرت وأنا أتأمل أصدقائى المبدعين المعتزلين مقالة نشرها الكاتب والسيناريست الراحل مصطفى محرم قبل عدة أعوام بعنوان «نجيب محفوظ والوظيفة»، تحدث فيها عن معاناة المبدع مع التوفيق بين موهبته وتكريس وقته لها، وبين الوظيفة التى تدر عليه دخلًا يقتات منه، وذكر فيه أن نجيب كان يمقت الوظيفة ويراها قيدًا وعدوًا لدودًا للمبدع، وعندما سئل عن حاله مع الوظيفة، قال: «إنه لا يستطيع أن يكتب شيئًا، ويشعر بأنه ميت، كان ينتظر بفارغ الصبر مرحلة التقاعد».
نجيب محفوظ ليس المبدع الوحيد الذى كان يعانى من قيد الوظيفة، إذ تعد هذه متلازمة يعانى منها كثير من المبدعين، خصوصًا من يشتغلون بالإبداع الكتابى مثل الرواية والشعر، لأنها لا تدر عائدًا ماديًا مجزيًا مثل حقول الإبداع الأخرى، كالرسم، والغناء، والتمثيل، وغيرها؛ وبالتالى فهم فى الغالب، مضطرون للعمل فى وظيفة قد لا تتسق مع موهبتهم الأدبية؛ فالكاتب الإنجليزى جورج أورويل، على سبيل المثال، اضطر إلى العمل كمدرس وصحفى لسنوات قبل أن يتمكن من التفرغ للكتابة، وعندما تفرغ، أنتج أعمالًا خالدة مثل رواية «1984» و«مزرعة الحيوان».
ولذلك تسعى الجهات المسئولة عن رعاية المبدعين فى بعض الدول إلى المحافظة على وهج الإبداع وإبعاد الحاجة المادية عنه، فمثلًا الحكومة الفنلندية أدركت أهمية هذا الجانب، وبدأت فى تطبيق نظام يتيح للمبدعين أخذ إجازات مدفوعة الأجر للتفرغ لمشاريعهم الفنية والثقافية.
الأمر ذاته يظهر فى المبادرات التى تقوم بها المؤسسات الثقافية فى العديد من الدول، حيث نجد أن مؤسسات مثل مؤسسة «جوته» فى ألمانيا أو «المجلس الثقافى البريطانى» تمنح برامج إقامة مدعومة للفنانين والكُتاب لتوفير ببيئة مناسبة للإبداع تخرجهم من قيود متطلبات الحياة اليومية.
أعتقد أن المؤسسات الثقافية جديرة بأن تكون لديها مبادرات مثيلة تكرس حياة المبدع لإبداعه دون أن تأخذه الوظيفة منه، ونظرًا لأن مشروعًا مثل هذا يتطلب ميزانيات عالية، فبالإمكان البدء بعدد محدود جدًا من المبدعين الذين يتمتعون بموهبة فذة استثنائية تستحق أن يستثمر فيها الوطن للمستقبل.
عماد بن محمد العباد
جريدة الرياض السعودية