من التجارة إلى السياسة.. ترامب يعيد صياغة الديمقراطية الأمريكية
طارق فريد زيدان
آخر تحديث:
الأربعاء 8 أكتوبر 2025 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
عاد الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من الملاحقات القضائية والجدل السياسى. عودة لم تكن ممكنة لولا ضعف منافسه جو بايدن (قبل أن يُقرّر فى ربع الساعة الأخير الانسحاب لمصلحة كاميلا هاريس) من جهة وصدى محاولة الاغتيال الفاشلة التى أسهمت فى حسم النتائج من جهة ثانية.
مع عودة ترامب، عادت الترامبية بوصفها الممر الإلزامى لجعل أمريكا عظيمة مجددًا. عودةٌ تخلع قناع مؤسسات الدولة العميقة ومفرداتها المهذبة والمنضبطة وتؤكد أن الطموح فى واشنطن لا يحتاج إلى إذن مسبق بل إلى إعلان جرىء. «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا» (ماجا) شعار شعبوى كان كفيلًا باستدراج تيار يمينى أمريكى جارف لمصلحة ترامب. هذا التيار بدا مستعدًا لكسر القواعد والعلاقات والركائز لمصلحة رفاهيته.
ويخيّل للكثيرين أن الطريق إلى البيت الأبيض لا بد أن يمر عبر الجامعات الكبرى أو المراكز المالية العالمية، لكن التاريخ الأمريكى يُقدّم صورة مغايرة تمامًا لذلك. بعض أعظم الرؤساء بدأوا حياتهم فى مهن متواضعة لا علاقة لها بالسياسة. أعمال أقرب ما تكون إلى الكد اليومى من أجل لقمة العيش. لكنها لم تمنع أصحابها من الوصول إلى قمة السلطة فى الولايات المتحدة.
أبراهام لينكولن؛ رمزُ الحرية وموحّد الأمة الأمريكية خلال الحرب الأهلية. عمل فى بداياته ساعى بريد فى ريف إلينوى فى وسط الغرب الأمريكى. كان يقطع مسافات طويلة على قدميه ليُسلم الرسائل حتى فى أسوأ الأحوال الجوية. الرجل الذى حمل رسائل الناس العاديين تحول لاحقًا إلى حامل رسالة سياسية كبرى غيّرت وجه أمريكا بإلغاء العبودية ما أن صار الرئيس السادس عشر لأمريكا.
جيمس جارفيلد؛ الرئيس العشرون. بدأ حياته نجارًا يصنع الأثاث بيديه.
هارى ترومان؛ الرئيس الثالث والثلاثون. أمضى سنوات من حياته بائعًا للملابس الداخلية الرجالية. كان يمتلك ذاكرة قوية لدرجة أنه يتذكر مقاسات زبائنه ولو بعد سنوات. وحين سأله صحفى لاحقًا وهو رئيس عما إذا كان ما زال يحفظ هذه المقاسات أجاب مازحًا «لا، لكننى أذكر وجوهكم عندما لم تستطيعوا دفع ثمنها». الرجل الذى باع قمصانًا داخلية هو نفسه الذى اتخذ القرار الأخطر فى القرن العشرين باستخدام القنبلة الذرية وإلقائها على اليابان.
ليندون جونسون؛ ورث رئاسة أمريكا فى لحظة حرجة بعد اغتيال جون كينيدى فى عام 1963. وُلد الرئيس السادس والثلاثون لأمريكا فقيرًا وكان فى شبابه عامل نظافة ومُلمّع أحذية. كان يضحك مع زبائنه قائلًا «سألمّع البيت الأبيض يومًا ما».
ريتشارد نيكسون؛ قبل أن يدخل كلية الحقوق ويصعد فى السياسة، كان حطابًا يساعد أسرته الفقيرة.
جيرالد فورد كان طباخًا فى معسكر كشفى قبل أن يصبح مدربًا للملاكمة فى الجامعة.
رونالد ريجان هو الوجه الأكثر شهرة فى هذا السياق. قبل أن يصير أحد أبرز الرؤساء المحافظين، كان ممثلًا فى هوليوود، وظهر فى أحد أفلامه مع قرد. وعندما سأله صحافى لاحقًا عن شعوره بالتمثيل مع الحيوانات، أجاب مبتسمًا «كان تدريبًا جيدًا لمستقبلى السياسى».
لم يأتِ ترامب من الفقر أو من مهن بسيطة بل من عالم المال والأعمال والشهرة. رجل المليارات الذى لمع اسمه فى تجارة العقارات وبرامج تليفزيون. الواقع كان يفترض أن تمنحه تجربته قدرة على إدارة شئون الدولة. لكن الطريف أنه فى حملته الانتخابية كان يُردّد باستمرار «أنا أعرف كيف أعقد أفضل الصفقات». وعندما وصل إلى البيت الأبيض، تحوّل كل شىء تقريبًا إلى صفقة. حلف «الناتو» صفقة خاسرة. اتفاقية باريس للمناخ صفقة سيئة. علاقة أمريكا مع الصين «أكبر صفقة فى التاريخ». تعامل مع السياسة كما يتعامل التاجر مع عقد تجارى. إذا ربح يستمر، وإذا خسر ينسحب. غير أن الدولة العظمى ليست شركة. والمصالح الاستراتيجية لا تُقاس بدفاتر الحسابات.
• • •
التجربة الأمريكية هنا تستحق التوقف عندها مقارنة بتجارب دول أخرى. فى أوروبا تختلف الصورة كثيرًا. فالمسار السياسى هناك غالبًا يبدأ مهنيًا منضبطًا وينتهى صفقاتيًا مصلحيًا بعكس واشنطن.
معظم القادة الأوروبيين يأتون من خلفيات أكاديمية أو مهنية مرموقة. فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانت باحثة فى الكيمياء. بينما تخرج إيمانويل ماكرون من المدرسة الوطنية للإدارة فى فرنسا ثم عمل مصرفيا فى بنك روتشيلد.
فى بريطانيا معظم رؤساء الوزراء أتوا من جامعات النخبة مثل أوكسفورد وكامبريدج. ونستون تشرتشل رمز بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية بدأ حياته ضابطًا ثم مراسلًا حربيًا. تيريزا ماى بدأت مسيرتها مستشارة فى بنك إنجلترا.
هذه الأمثلة تُبيّن أن الطريق إلى السلطة فى القارة العجوز تمر عبر مسارب ومهن ومؤسسات نخبوية تمنح أصحابها رصيدًا ما قابل لأن يتحول لاحقًا إلى حساب مصلحة وصفقات.
هذه الحكايات تكشف عن أن القيادة ليست امتدادًا للوظيفة السابقة. بل انعكاس لمزيج من الطموح الشخصى والجرأة والقدرة على التواصل مع الناس. من يُلمّع الأحذية أو يقطع الأعشاب قد يصبح رئيسًا عظيمًا إذا عرف كيف يترجم تجربته إلى سياسات عامة. ومن يملك المليارات قد يتعثر إذا حوّل السياسة إلى تجارة. وربما هذا هو الدرس الأهم: السلطة فى أمريكا لا تتعلق بالبدايات بل بالنهايات. المال وحده لا يصنع رجل دولة. تمامًا كما أن الفقر لا يمنع أحدًا من أن يصبح زعيمًا لأكبر دولة فى العالم.
• • •
ثمة مواصفات شخصية حتمًا تساعد القائد فى النجاح أو الفشل مثل المرونة والثقة والصدق والقدرة على الإقناع وضبط النفس واتخاذ القرار الصعب وبالتالى بناء الشرعية السياسية وثقة الجمهور والتعامل مع الأزمات بحكمة ودراية كبيرين وصولًا إلى تحديد أولويات واضحة والقدرة على التواصل والإقناع وفهم احتياجات المواطنين والتعلم من الأخطاء وتعديل المسار عند اللزوم.
مع عودة الترامبية، تصبح هذه العناصر كلها موضع مراقبة وتقييم وتشكيك. نحن أمام موجة يمينية تجتاح العالم بأسره ولو أخذنا النموذج الأمريكى القائل بـ«أمريكا أولًا»، لوجدنا أن الناخبين الأمريكيين لن يحاسبوا ترامب على إنجازاته الخارجية بل على ما يُمكن أن يُقدمه لجمهوره من مؤشرات داخلية كفيلة بطمأنة الأمريكيين كالبطالة، الصحة، التضخم، العجز، الدين العام.. إلخ.
الاختبار الأساس هو فى الانتخابات النصفية فى خريف العام 2026. ما يقوم به ترامب حاليًا يُذكرنا بكيفية تفصيل قوانين الانتخابات فى لبنان، وذلك على قياس أهل السلطة، وهذا ما تشى به محاولة إعادة رسم الدوائر الانتخابية فى كل الولايات الأمريكية ولا سيما المحسوبة تاريخيا على الديمقراطيين وأيضا من خلال التحكم بقرار المحكمة العليا. إذا نجح ترامب فى ما يصبو إليه لن يكون مفاجئًا للعالم أن يحظى بولاية ثالثة وأن يبدأ العد العكسى لتحول أمريكا إلى دولة من «دول الموز».
فى نهاية الكلام. لم تكن الرئاسة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية يوما مهنة تستمد من الماضى. بل هى امتحان قدرة على حمل مصالح إمبراطورية عابرة للقارات وإدارة نظام دولى. ومن صخب الأسواق المالية وضجيج هوليوود وورش الأعمال خرج رجال أدوا المهمة تحت هذه المعادلة. فهل يكتب لترامب أن يكون منهم أم أن يجر أمريكا ومعها النظام الدولى إلى هبوط مهين؟
كاتب سعودى