يصعب إنكار أن الشرق الأوسط شهد على امتداد السنوات الست الماضية تطورات بالغة الأهمية سواء على مستوى الدول، كل على حدة أو على مستوى الإقليم. اختلفت أنصبة الدول من هذه التطورات. دول شهدت تدميرا وحروبا وخرابا، ودول شهدت بدايات تحول، ولا أقول تغيير، فى أفكار ومؤسسات استقرت عقودا وفى حالات أخرى استقرت قرونا، ودول من نوع ثالث اقتربت من وضع المهدد كيانها أو هويتها القومية.
مصر مثلا شهدت فجر ثورة سرعان ما أطبقت على عنقها عديد القوى الداخلية والإقليمية والدولية صاحبة المصالح المتناقضة حتى كادت تخنقها، أو فلنكن أكثر دقة فنقول تسببت فقط فى عرقلة مسيرتها. المهم فى الحالة المصرية أن المؤسسات التى حافظت فى أزمات أسبق على الكيان المصرى استطاعت فى هذه الأزمة حمايته كما فعلت من قبل. وفى اعتقادى أن ما فعلته مؤسسات مصر كان لصالح النظام العربى رغم استمراره على طريق الانحدار وفى الوقت نفسه كان كاشفا عن مدى اهتراء مؤسسات دول أخرى. كان أيضا مؤشرا على ضرورة الوجود المصرى من أجل استمرار النظام الإقليمى العربى، وتأكيدا جديدا لقاعدة أن حيوية النظام العربى تعتمد على حيوية مصر ومؤسساتها وبالعكس. ثالثا، كانت حيوية المؤسسات المصرية فى أوقات الأزمة العامل الضرورى لتسهيل مهمة استعادة كفاءة وعمل بعض مؤسسات الدولة فى سوريا بعد أن كدنا نفقد الأمل فى عودتها وكاد القليلون يحتفلون بانفراطها.
***
المملكة السعودية مثال آخر. لا يحب قادة المملكة وبعض مفكريها استخدام كلمة الثورة فى وصف أى تحول جذرى يحدث فى بلادهم. أنا لست من قادتها أو من مفكريها وصانعى الرأى فيها؛ لذلك منحت نفسى الحق لأن أعتبر بعض ما حدث فى المملكة من تطورات خلال الشهور الأخيرة يقع تحت عنوان تحولات ثورية الطابع وربما النتائج. تقع تغييرات على مستوى القيادة السياسية ما كانت لتقع بإجراءات روتينية أو بيروقراطية عادية وما كانت لتقع ضمن أحكام وقيود ما شرعه المؤسسون وسار عليه خلفاؤهم. وقعت بالفعل تغييرات فى الحيز الاقتصادى والتنموى مثل 2030 وعولمة أرامكو ومشروع نيوم فى شمال غرب المملكة، وفى الفضاء الاجتماعى مثل خروج المرأة من محابسها التقليدية ونزع أدوات ومصادر قوة أجهزة التكفير الدينى والإرهاب الفكرى. ثم اهتز العالم الخارجى وبعده الإقليمى حين انتشرت أخبار حملة مكافحة الفساد على نطاق غير مألوف. هذه الحملة التى بما لم تكن جزءا من أحلام أشد المتفائلين بمستقبل المملكة. لا أستطيع كمراقب خارجى إلا أن أعتبر هذه التغيرات، ما تحقق منها وما هو على الطريق ليتحقق، تحولات «ثورية». أكتب هذا وأنا مدرك تمام الإدراك لحجم الأبعاد الإقليمية والدولية المترتبة على «ثورة» فى المملكة السعودية.
على أصعدة أخرى وقعت تطورات فى بعض دول الإقليم، عدد من هذه التطورات وقع بسبب تدخل كلى أو جزئى من جانب المملكة، وجميعها للآسف رتب عليها وقوعه مسئولية ضخمة وتبعات بالغة الأهمية. قد تعود سوريا بعد حروبها العديدة على امتداد السنوات الخمس الماضية كيانا مستقلا أو بإرادة غير مكتملة الحرية ولكنها وفق كل الحسابات الأكاديمية وغير الأيديولوجية لن تعود سوريا التى كانت، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالشكل والجوهر الذّين سوف تنتهى عليهما. أستطيع، من بعد، أن أتصور حجم القلق داخل قصور صنع السياسة فى المملكة حول مستقبل سوريا. أعرف أن سوريا بالنسبة لصانعى السياسة الخارجية والدفاعية فى كل من المملكة السعودية ومصر ليست دولة عربية أخرى أو عادية. أشهد، ويشهد كثيرون من المهتمين بحال النظام العربى ومؤسساته، أنه منذ الحرب العالمية الأولى وبخاصة بعد توحيد المملكة لم يفت على حكام هذا الجزء الكبير من الجزيرة العربية حقيقة أن سوريا كيان مفصلى بالنسبة لأمن الجزيرة والبوابة الشمالية للمملكة. تنبهوا فى الوقت نفسه إلى أن المصريين عندما يفكرون فى سوريا ففى ذهنهم أمن مصر وأمن الجزيرة العربية معا. فكر فيها على هذا النحو المسئولون عن صنع السياسة الخارجية المصرية فى عهد الأحزاب والنظام الملكى، وكذلك نخبة السياسة الخارجية فى جميع العهود التالية التى كان للمؤسسة العسكرية دور بارز فى صنع وتنفيذ سياسة مصر الخارجية. حاولت استطلاع ردود فعل السوريين على مختلف مشاربهم، وما أكثرها، على التطورات الأخيرة فى السعودية. انتقل لى وبقوة فضولهم الشديد المصحوب بدرجة عالية جدا من التوتر. مزيج غريب من التفاؤل والخوف والأمل. المزيج نفسه كان موجودا وبكثرة فى ردود فعل مصريين من مختلف الاتجاهات والمعتقدات.
***
تتعدد القضايا المعلقة فى سجل أعمال حكومة المملكة، وكلها إن لم تحل بسرعة فسوف تصبح عائقا ومعطلا لمسيرة التطوير والتنوير. اليمن قضية كبيرة للغاية وكل الجهود الممكنة لوقفها يجب توظيفها فورا ومنها العمل العربى المشترك بعد منحه الصلاحيات اللازمة والشراكات العربية الدولية مثل شراكة الاتحاد الأوروبى والشراكة مع روسيا التى كللت بنجاح لا بأس به فى سوريا وكذلك الشراكة مع الولايات المتحدة. قضية أخرى عالقة، كان الظن أنها ستكون أقل القضايا أهمية وتعقيدا. خاب ظننا، ولكن يبقى الأمل وفيرا فى أن يتوقف النزيف فى منظومة العلاقات الخليجية. كنا كمجموعة من المفكرين نأمل بأننا قد نلجأ للمنظمة الخليجية لتلعب فى الوقت المناسب دور القاطرة التى يمكن أن تستعيد أمل الشعوب فى وقف تدهور النظام الإقليمى العربى والمشاركة الإيجابية فى تطوير أعمدته وأسسه وأهدافه.
العراق ولبنان قضيتان معلقتان بين قضايا أخرى فى السجل السعودى وهما أيضا معلقتان الواحدة بالأخرى وكلاهما معا بأطراف خارجية، وجميع الأطراف أى لبنان والعراق والسعودية والخليج والبلاد العربية القريبة منهما معلقة بأطراف دولية وإقليمية تكونت لها مصالح وقواعد وتسهيلات فى معظم هذه الدول.
***
يشغلنى حقا أن مؤسسات النظام العربى وبخاصة الجامعة العربية ومشروعات الدفاع والأمن والتكامل متوقفة، ولسنا هنا فى مكان أو نية توزيع مسئولية هذا التوقيف. أشير إليه الآن باعتبار الفرصة للتذكير بأنه لو جرى تفعيله وتنشيطه فى وقت سابق لربما أفلح اليوم فى وقف التدهور العربى العام أو دعم انتفاضة التنوير فى السعودية. أشير إليه أيضا باعتبار أن أى انفجار جديد فى الشرق الأوسط فى الظروف الراهنة دوليا وإقليميا سوف تكون بمثابة قبلة الموت للنظام العربى ولإنجازات وتحولات ما زالت فى مهدها.