فى كل عام تقام فى كل أنحاء العالم مناسبة فولكلورية للنظر فى موضوع الفقر. يحتفى بتراجع الفقر فى ذاك البلد وتلطم الخدود لازدياد أعداد الفقراء فى بلد آخر. يشار إلى الإحصائيات وتقدم التوصيات الجزئية والمؤقتة والقابلة للانتكاس لحل هذا الجانب من معضلة الفقر أو ذاك. فى الغالبية الساحقة من المستويات الرسمية، عبر العالم كله، يكتفى بذلك.
لكن هل طريق حل مشكلة الفقر بصورة جذرية شاملة ومستمرة فى المستقبل المنظور يكمن فى التوصيات المتكررة، مثل الاهتمام بتشغيل الشباب وتخفيض نسب البطالة، أو فى استقطاب الاستثمارات العولمية، أو فى محاربة الفساد، أم أن الحل يكمن فى الإجابة عن السؤال التالى بأمانة ودون لف أو دوران: هل يمكن حل مشكلة الفقر دون تغيير جذرى فى مبادئ وأهداف ووسائل النظام الاقتصادى العولمى الرأسمالى السائد والمحكوم بمبادئ المدرسة النيولبرالية التى تسود العالم منذ ثمانينيات القرن الماضى؟
إن نظاما اقتصاديا يسمح بأن تكون ثروة أغنى ثمانية فى العالم مساوية لثروة نصف سكان العالم، ويسمح لأن يعيش حوالى عشرة فى المائة من سكان العالم على أقل من الدولارين فى اليوم، ويسمح بأن تكون الزيادة فى دخل تلك العشرة فى المائة من السكان الفقراء، فيما بين عامى 1988 ــ 2011، هى 65 دولارا، بينما تكون الزيادة فى دخل الواحد فى المائة من سكان العالم المترفين هى حوالى اثنى عشر ألف من الدولارات.. إن نظاما يسمح بذلك هو نظام ساقط أخلاقيا وقيميا وإنسانيا، ولا يمكن القبول بوجوده. إنه نظام يجب أن تعاد صياغته بصورة جذرية، إذ إنه سينقل العالم من أزمة إلى أزمة، ولن يحل مشكلة الفقر لا الآن ولا فى المستقبل، وسينتهى بتسليم مقاليد أمور السياسة والإعلام والثقافة فى أياد قلة صغيرة، بل بالغة الصغر، من أثرياء العالم.
ولن تعاد صياغة ذلك النظام الاقتصادى الجائر، فلسفة، وفكرا، ونفوذا وتطبيقات مأساوية فى الكثير من بلدان العالم الثالث الفقير، وهيمنته على ممارسات مؤسسات دولية مثل البنك الدولى، إلا بإحلال مدرسة فكرية جديدة فى الاقتصاد، تحل محل مدرسة شيكاغو التى تتربع على عرش التأثير الانتهازى المتوحش لساحات الاقتصاد فى كل العالم.
***
إن مدرسة شيكاغو فى الفكر الاقتصادى، التى بدأت تبذر بذورها فى الثلاثينيات من القرن الماضى على يد ملتون فريدمان وهايك فى أوروبا، والتى وصلت إلى قمة انتشارها وتأثيرها الكبير فى الثلاثين سنة الماضية، بعد أن تركزت فى شيكاغو الأمريكية، تقوم على ادعاءات ومنطلقات بالغة الخطورة.
والادعاء الأول، ومن أجل أن يتقبل الناس أفكارها، هو أن الاقتصاد هو علم مساو للعلوم الطبيعية والرياضية فى انضباطه ونظرياته وتجاربه. وبالطبع أثبتت الأيام كذب ذلك الادعاء عندما فشل «علم الاقتصاد» ذاك فى التنبؤ وفى معالجة الأزمات المالية والاقتصادية عبر القرن الماضى كله.
أما منطلقات مدرسة شيكاغو فقامت أولا على أسس الحرية الكاملة لمنطق السوق ليحكم الأسعار والخيارات الاستهلاكية، وعدم السماح لسلطات الدولة للتدخل فى تنظيم تلك السوق وكبح جماح ممارساتها الخاطئة، وثانيا على قبول نتائج تلك السوق الحرة مثل تركز الثروة فى أياد قليلة بينما يزداد الفقراء فقرا وتتلاشى الطبقة الوسطى، وثالثا تخصيص الغالبية الساحقة من الخدمات التى كانت الدولة تقوم بها مثل التعليم والصحة والإسكان والنقليات على أساس أن القطاع الخاص أكثر كفاءة من الحكومات، ورابعا أن أفضل الأوقات لتطبيق تلك الأفكار عندما تحل كارثة طبيعية أو اقتصادية أو سياسية بالمجتمع تؤدى إلى حدوث خوف وقلق عام أو فوضى مجتمعية، وذلك من خلال اقتراح علاج الصدمة الذى لا يؤمن بالتدرج وأخذ الجوانب الإنسانية بعين الاعتبار وإنما بإبعاد سلطات الدولة عن الحقل الاقتصادى وعن تقديم الخدمات الاجتماعية، مع ترك الأمر للقطاع الخاص ليستفيد من حالة الخوف والفوضى لزيادة ثروته وتراكم أرباحه وتسلطه على رقاب العباد.
***
نحن إذن أمام مدرسة فكرية اقتصادية تهيمن على العالم، وتؤمن بمنطلقاتها حكومات ومؤسسات عالمية وشركات عابرة للقارات وأعداد كبيرة من الذين يباع لهم وهم «القبول بالآلام والبؤس فى الحاضر إلى أن يأتى الفرج فى المستقبل». ذلك المستقبل الذى لن يأتى كما أثبتت مسيرة العالم عبر الثلاثين سنة الماضية، بل الذى يزداد سوءا كما تظهره إحصائيات الفقر والجوع والتشرد والفساد التى تذكرها التقارير الدولية سنة بعد سنة. وإذا كانت بعض التقارير تظهر تحسنا متواضعا هنا أو هناك، فإن ذلك يشبه التحسن المؤقت فى أعراض المرض الخبيث المزمن الذى لا يتشافى إلا بعلاج جذرى متكامل.
وإذن دعونا نكون صريحين مع أنفسنا وشريفين مع فقراء هذا العالم:
حل مشكلتكم هى فى حل مشاكل الرأسمالية النيولبرالية العولمية المتوحشة، وذلك بالبدء بالابتعاد الحاسم عن مدرسة شيكاغو أولا، ثم بناء مدرسة جديدة.
لكن ذلك كله سيظل نشاطا أكاديميا لا يغير الواقع إلا إذا صاحبه وجود نشاطات نضالية سياسية تقوم بها الأحزاب المؤمنة بحقوق الناس وبالتضامن الإنسانى وبالعدالة الاجتماعية وبالتوزيع العادل لثروة الأرض، وتقوم بها أيضا النقابات العمالية التى همشت وأضعفت إلى حدود الوهن، ويؤمن بها شباب العالم بعد أن يفرغ ذهنه وقلبه من ثقافة الاستهلاك والخلاص الفردى والفردية التى لا ترتبط بالتزام اجتماعى أو أخلاقى.
انتهاء الفقر فى هذا العالم يتطلب إزاحة النظام الاقتصادى العولمى الحالى وخلق وإحلال نظام اقتصادى جديد.
ماعدا ذلك فإننا نمارس الثرثرة الفارغة غير المجدية دوريا ونقدم العلاجات المهدأة والأدوية الفاسدة لمرض مرعب اسمه الفقر.