عالم الإنترنت الجديد الشجاع

قضايا تكنولوجية
قضايا تكنولوجية

آخر تحديث: السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

لم يكن جورج أورويل وهو يكتب رائعته «1984» أو ألدوس هكسلى وهو يؤلف «عالم جديد شجاع»، يتخيلان أن كل ما تحدثا عنه من محاولات السيطرة على العقول سيتحقق فى نهاية القرن الذى كتبا فيه عمليهما، وذلك على أيدى التكنولوجيا الحديثة.
عند أورويل كانت السيطرة على العقول مصحوبة باستبداد سياسى عنيف مارسه نظام الأخ الأكبر، عبر التعذيب ومختلف وسائل المراقبة ومن خلال استخدام طرائق نفسية طويلة ومعقدة، أما عند هكسلى فكان تغيير العقل نتيجة تربية الأطفال فى بيئات معزولة ومنغلقة على نفسها فى عالم مختلف وخيالى لا يهتم بأية قيمة إنسانية.
السيطرة على العقول فى الكتابين كانت لأغراض سياسية عند أورويل، ونتيجة التقدم التقنى عند هكسلي، ولكن هذه السيطرة فعلتها شبكة الإنترنت من دون قسر أو إجبار أو استبداد، كما يذهب نيكولاس كار فى كتابه «السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا»، فالشبكة وفق كار هى التقنية الأكثر فعالية التى أسهمت فى تغيير العقل.
فعلت الإنترنت ببساطة وبأسرع ما تنبأ به أورويل وهكسلى، وكتباه على أساس أنه ينتمى إلى الأدب السياسى المستقبلى، قامت الإنترنت بذلك من دون استبداد أو تعذيب يتعرض له أحد من البشر، ومن دون استخدام وسائل تغيير تنتمى إلى أشد نظريات علم النفس سوداوية، فعلت الإنترنت ذلك ونحن نشعر بالسعادة والراحة، بل بتنا من درجة اعتمادنا عليها وامتناننا لها لا نتصور العالم من دونها.
غيرت الإنترنت العقول من دون معاناة أو خلافات أيديولوجية أو صدامات ونقاشات وكتابات استهلكت العقول فى زمن الأفكار، لم تخض الإنترنت حربًا أو صراعًا بين يمين ويسار أو بين تقدميين ورجعيين أو حداثيين وكلاسيكيين، بل بالعكس تخلو قصة صعود الإنترنت من كل ذلك. غيرتنا الإنترنت وهى تروّج أنها فى خدمتنا وأنها صممت لسهولة الحياة، وببطء ورويدا رويدا دخلت فى كل نشاطات الإنسان، واحتلت الحياة.
لم تؤثر الإنترنت فى تلقينا للمعرفة ولم تكن أكبر موسوعة مفتوحة ومتاحة فى التاريخ، ولكنها أثّرت أيضا فى خياراتنا وتفضيلاتنا، وقربت بين الطبقات والشعوب والأمم، ولأول مرة بات العالم قرية صغيرة، وأثّرت مرة أخرى فى مشاعرنا، وساعدتنا فى بناء علاقات جديدة وصداقات جديدة، باختصار الإنترنت غيرتنا فكريًا واجتماعيًا وإنسانيًا، والسؤال الإشكالى الوحيد الذى صاحب الإنترنت: هل كان هذا التغيير نحو الأفضل؟ وهل يمكننا الاستغناء عنها؟
حققت الإنترنت النقلة الثالثة فى تاريخ البشرية بعد اختراع الكتابة والمطبعة، وأحدثت تأثيرًا فى عقود قليلة يفوق تأثير المرحلتين السابقتين اللتين استغرقتا مئات السنين، حققت الإنترنت لنا ما حلمنا به وما لم نتوقعه، وفى المقابل سيطرت على عقولنا بسهولة ويسر ومن دون إبداع روائى يصيبنا بوجع الرأس أو تحذيرات أطلقها كثيرون فى الماضى من أمثال أورويل وهكسلى.
أصابتنا الإنترنت بسطحية واضحة متعددة المظاهر، ولكنه مقابل زهيد أمام مزاياها الأخرى، ضريبة بسيطة علينا دفعها لكى نعيش فى «عالم جديد شجاع».


يحيى زكى
جريدة الخليج الإماراتية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved