ألا ما أشبه الليلة بالبارحة
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الأحد 8 ديسمبر 2024 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
استرعى انتباهى، وأنا أدرّس لطلبة الدراسات العليا نصًا شعريًا عبريًا من القرن التاسع عشر، فى إطار مساق دراسى يتتبع مسار الفكرة الصهيونية فى الشعر العبرى الحديث، منذ نشأتها وحتى الآن، أن الدور الوظيفى، الذى تؤديه إسرائيل، الآن، والتصاقها بالقوة العظمى، الأكبر، فى عصرنا الحديث، أمريكا، ليس وليد اليوم أو العصر الإمبريالى فقط، وإنما هو دور أدته الجماعة اليهودية، وبحسب الرواية التوراتية، نفسها، فى القرن الخامس قبل الميلاد، فى عصر الإمبراطورية الفارسية، التى امتد سلطانها إلى فلسطين، تحت زعامة الإمبراطور الفارسى، المسمّى، أرتحشستا. يرجع الفضل إلى العلّامة والفيلسوف الكبير، الأستاذ الدكتور، عبدالوهاب المسيرى، محرر موسوعة: «اليهود واليهودية والصهيونية»، رحمه الله، فى صك مصطلح الدولة الوظيفية.
النص الشعرى، المشار إليه، كتبه شاعر من رواد حركة التنوير العبرية، وهى حركة نشأت بين يهود أوروبا عام 1770م واستمرت حتى عام 1880م، تأثرت بحركة التنوير الأوروبية، يُدعى، يهودا ليف جوردون، اتخذت من سطر شعرى بقصيدة له تُسمّى، استيقظ يا شعبى، شعارًا لها: «كن يهوديًا فى بيتك وإنسانا خارجه». بدأت الحركة فى غرب أوروبا، خاصة فى ألمانيا، ثم انتقلت إلى إيطاليا، فشرق أوروبا، حيث كان يعيش نحو 80% من يهود العالم فى ذلك الوقت. نادت الحركة بنبذ التعليم الدينى اليهودى التقليدى، وبتبنى التعليم العلمانى، النقدى، على غرار التعليم الأوروبى، وبتعلم اللغات الأوروبية ونبذ الرطانة اليديشية، وهى رطانة خليط من العبرية والألمانية وبعض اللغات السلافية، كان يتحدث بها يهود أوروبا، فى حينه، والأهم، من كل ما سبق، أن الحركة دعت يهود أوروبا إلى الاندماج فى المجتمعات الأوروبية، وإلى التخلى عن العزلة الطوعية التى فرضوها على أنفسهم داخل معازل خاصة، عُرفت باسم «الجيتو»، وإلى التخلى عن الفكرة القومية، بما فى ذلك «العودة إلى صهيون».
واجهت الحركة معارضة من جانب التيار الدينى المحافظ، ولم يكتب لها النجاح، سيما بعد ظهور الفكرة الصهيونية على مسرح الأحداث. تبنى شاعر التنوير الفكرة الصهيونية، قبيل وفاته، وتجند لها، ضمن منظومة كبيرة ممن تجندوا لها من أدباء وشعراء ومفكرين يهود، روجوا لها بين أوساط يهود أوروبا، وكتب قصيدة تحدد المنهج العملى، لإخراج الفكرة الصهيونية إلى حيز التنفيذ.
يتلخص المنهج العملى، الذى حدده، فى القصيدة، فى ثلاث نقاط رئيسية، هى: الاستعانة بقوة عُظمى ممثلة فى الإمبراطورية الفارسية، واستيطان فلسطين أو بناء «أورشليم»، بلغة القصيدة، ثم استعمال القوة للتغلب على أعداء الفكرة وهم السامريون، فى القصيدة، الذين اعتنقوا مذهبًا دينيًا يختلف مع المذهب اليهودى المهيمن، خاصة فى اختلاف النظرة إلى «أورشليم/صهيون» وإلى المكان المفترض لـ«الهيكل».
• • •
تستلهم القصيدة أنموذجا توراتيا، عمليًا، مجرَبًا، ورد ذكره فى سفر «نحميا»، وكأن الفكرة الصهيونية، فى الأصل، بمنهجها الاستيطانى، الاستقوائى، المعتمد على قوة عظمى، ليست من بنات أفكار تيودور هرتزل أو المنظرين اليهود فى العصر الحديث، وإنما فكرة توراتية فى الأساس. تتكون القصيدة من أربعة أبيات، كل بيت من أربعة أسطر شعرية، ما عدا البيت الأخير من خمسة أسطر. يركز عنوانها: «من أجل جبل صهيون الذى صار خرابًا»، المقتبس، حرفيًا، من الإصحاح الخامس من سفر «مراثى إرميا»، سفر البكائيات على صهيون، الحزن اليهودى العام على ما صار إليه حال اليهود فى المجتمعات الأوروبية، أو فيما يُسمَى فى الأدبيات الصهيونية بـ«الجالوت»، ومن هنا يمس العنوان وترًا حساسًا فى الوجدان اليهودى.
يستهل الشاعر القصيدة، بعد أن استذكر العنوان حال «جبل صهيون»، بفاصل من البكائيات، فى البيت الأول، درج معظم الشعراء، فى حينه، على تضمينها أشعارهم عن «أرض إسرائيل» عامة، وعن "أورشليم" و"صهيون" و"الهيكل" خاصة، حيث يشير إلى أن أسوار «صهيون» ما تزال مهدمَّة، ومتصدعة، وإلى أن أساساتها ما تزال على حالها من التقوض: «انهارت أسوارك، أيضا، يا صهيون/لم تُرمّم الصدوع بعد/ لم تلتئم الأسس»؛ ثم يختم الشاعر البيت بسطر فيه إشارة إلى عجز الجماعة اليهودية الأوروبية، عن ممارسة فعل عملى من أجل إعادة بناء أسوار «صهيون»، حيث يقول: «توقف العمل/ كفَّ البنَّاؤون»، وإلى اكتفاء مفكريها، وزعمائها بالتنظير فقط للمسألة القومية اليهودية.
فى البيت الثانى من القصيدة، يقرِّع الشاعر يهود أوروبا لافتقادهم الأمل فى "العودة إلى صهيون"، ولترددهم وفزعهم، رغم أنها، أى "صهيون"، أرض خيرات، "أرض تفيض لبنا وعسلا"، بحسب النص التوراتى، وقد توفر لهم ملاذا وملجأ من المحن التى يعانون منها فى أوروبا، حيث يقول: "ثم أخيرًا تقاطر أبناؤك إلى خيراتك/آملين أن يجدوا لديك ملاذًا فى يوم محنة/ لكنهم وقفوا فجأة يرجفون، فزعوا/لأنهم فقدوا كل أمانيهم".
فى البيت الثالث من القصيدة، يحصر الشاعر تقاعس أفراد الجماعة اليهودية عن «العودة إلى صهيون» فى جملة من الأسباب، منها: افتقاد إرادة العودة، والاكتفاء بالعويل والولولة، وضعف الهمة والعزيمة، وضعف الروح المعنوية، والخوف من الأعداء، والأهم، افتقاد القائد النموذج: «كيف جفل بُنَاتُكِ - ولولوا/كيف فترت عزيمتهم/ تركوا موقعهم/ فارقتهم الروح/ هل بسبب السامريين أعدائك؟/ألا يوجد بينهم واحدٌ مثل نحميا بن حَكَلْيا؟».
• • •
ينسف السامريون، الأعداء، الذين يعنيهم الشاعر فى القصيدة ـ طائفة يهودية ـ الفكرة الصهيونية من أساسها، إذ يعتقدون أن مكان «الهيكل» هو جبل «جريزيم» بنابلس، وليس «صهيون/أورشليم»؛ أما نحميا بن حَكَلْيا، فهو ساقى الإمبراطور الفارسى، أَرْتَحْشَستا، كما ورد فى سفر «نحميا»: «وفى شهر نيسان فى السنة العشرين لأَرْتَحْشَسْتَا الملك، كانت خمرٌ أمامه، فحملتُ الخمرَ وأعطيتُ الملك، ولم أكن قبل مُكَمّدَا(مغموما) أمامه» (سفر نحميا، الإصحاح 2، الآية 1).
نحميا يهودى مقرَّب جدا، إذا، من الإمبراطور الفارسى. هو المقابل الموضوعى، لجاريد كوشنر العصر، صهر ترامب. فطن نحميا إلى تقاطع المصالح بين الإمبراطورية الفارسية ومصالح الرعايا اليهود، فى حينه، فشكا للإمبراطور ما آل إليه وضع «صهيون» من خراب، كما يقول السفر: "فقال لى الملك، لماذا وجهك مُكَمَّدٌ وأنت غير مريض؟ (...) فقلت للملك، ليَحْيَا الملك إلى الأبد، كيف لا يَكْمَدُّ وجهى والمدينة (أورشليم) بيت مقابر آبائى خراب، وأبوابها قد أكلتها النار؟"(سفر نحميا، الإصحاح 2، الآية 3). وفطن الملك، بدوره، إلى مصلحة الإمبراطورية فى تعزيز سيادتها على المدينة من خلال تعيين، رجل تعتمد عليه، موضع ثقتها، واليا عليها، الأمر الذى يذكرنا بالأهداف التى وضعتها القوى الاستعمارية فى العصر الحديث، نصب عينيها وهى تؤسس دولة لليهود فى قلب المنطقة العربية، فقال لـ«نحميا»، بحسب السفر: «ما ذا طالب أنت؟ فصلَّيت إلى إله السماء وقلت للملك، إذا سُرَّ الملك، وإذا أحسَن عبدكَ أمامك، ترسلنى إلى يهوذا، إلى مدينة قبور آبائى فأبنيها. (...) وأرسل معى الملك رؤساء جيش وفرسانًا» (سفر نحميا، الإصحاح 2، الآيات 5ـ 9). ألا تذكرك، الفقرة الأخيرة، عزيزى القارئ، بالدعم العسكرى اللا محدود، الذى تقدمه أمريكا والدول الغربية لإسرائيل، اليوم؟!
• • •
يختتم شاعر «التنوير»، من القرن التاسع عشر، القصيدة، بعد أن استلهم النموذج التوراتى، نموذج القائد العملى التنفيذى، وثيق الصلة بالقوة العظمى، فى حينه، ببيت هو بمثابة خطة عمل مفصلّة وواضحة قوامها، «البناء» ـ الاستيطان والقتال فى آن واحد: «لن نبنيكِ (يا أورشليم) إذا لم نقاتل/ إذا لم نعمل بالنهار ونحرس بالليل/ إذا لم تجمع يد حجارتك/ وتمسك الثانية بالترس والسيف».
خطة العمل التى يطرحها شاعر التنوير هى خطة العمل، ذاتها، التى وضعها كاتب سفر «نحميا»، حيث يقول السفر على لسان نحميا بن حكليا، رجل الإمبراطورية الفارسية فى فلسطين: «ومنذ ذلك اليوم كان نصف غلمانى يشتغلون فى العمل، ونصفهم يمسكون الرماح والأتراس والقِسِيّ والدروع. والرؤساء وراء كل بيت يهوذا. البانون على السور بنوا وحاملو الأحمال حملوا. باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأخرى يمسكون السلاح. وكان البانون يبنون وسيف كل واحد مربوط على جنبه. (سفر نحميا، الإصحاح 4، 16ـ 18).
المثير، أن الحركة الصهيونية، بزعامة هرتسل، تبنت خطة شاعر «التنوير»، التى استلهمها، بدوره، من سفر نحميا بن حكليا، وطبقتها بحذافيرها. وما تزال تطبقها إلى يومنا هذا.
ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.