الاعتذار عن الاستعمار
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 9 يناير 2023 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
لسنين عددا، عكفت الشعوب والدول التى عانت ويلات الاستعمار، على مطالبة القوى الاستعمارية السابقة، بالتكفيرعما اقترفته من فظائع بحقهم إبان الحقبة الاستعمارية؛ الممتدة من حركة الكشوف الجغرافية نهاية القرن الخامس عشر، مرورا بالثورة الصناعية الأولى، خلال النصف الثانى من القرن الثامن عشر، وحتى أفول ظاهرة الاستعمار الكلاسيكى، مطلع سبعينيات القرن العشرين.
تأبى الأمم المتضررة، إلا إلزام الدول الاستعمارية بتقديم ما يتجاوز إصدار بيانات شفهية للاعتراف، والتعبيرعن الأسف، بحيث يتم الاعتذار، رسميا، ودفع التعويضات الكفيلة بجبر الضرر. غير أن الأخيرة تصرعلى التهرب من المسئولية، متذرعة بأن الأبناء والأحفاد، لا يجب أن يعتذروا عما فعله الآباء والأجداد. ففى حين أصدرت بعض الدول اعترافات رسمية، فيما أقرت أخرى بوقوع «أحداث معينة»، ترفض جل القوى الاستعمارية الاعتذار، مؤثرة تبنى إجراءات استرضائية رمزية.
فى عام 2018، اعتذرت الدنمارك لغانا، عن دور الدنماركيين فى تجارة الرقيق عبر الأطلسى. وفى عام 2020، وعبر رسالة بعث بها إلى رئيس الكونجو الديمقراطية، بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال بلاده، عبر الملك البلجيكى، فيليب، سليل الملك، ليوبولد الثانى، الذى حكم فى القرن التاسع عشر، وهلك فى عهده عشرة ملايين أفريقى، عن عميق أسفه، جراء الإذلال والمعاناة التى تعرضت لهما جمهورية الكونجو، طيلة 75 عاما من الاستعمار البلجيكى. وفى عام 2021، اعترفت ألمانيا بأن مقتل ستين ألف شخص من عرقية «أوفاهيريو»، وعشرة آلاف من عرقية «ناما» فى ناميبيا، على يد المستعمرين الألمان بين عامى 1904 و 1908، هو إبادة جماعية. ودون أن تعتبرها تعويضات، تعهدت برلين بتقديم «لفتة للاعتراف بالمعاناة الهائلة التى ألحقتها بهم»، تمثلت فى تقديم مساعدات تنموية لأحفاد العرقيتين، بقيمة 1.3 مليار دولار، على مدى 30 عاما.
ضمن مبادرة استثنائية، عمدت إيطاليا، أوائل تسعينيات القرن الماضى، إلى التكفير عما ارتكبته من جرائم بحق الليبيين؛ عبر الاعتذار، رسميا، لليبيا، عن سنوات الاحتلال، مع التنازل عن مستحقات مالية لدى طرابلس، وتوقيع اتفاق لنزع الألغام التى تمت زراعتها هناك، مع تعويض المتضررين، وإقامة المستشفيات، ومراكز التأهيل. علاوة على الإقرار بانتصار الشعب الليبى فى نضاله التحررى ضد الاستعمار الإيطالى. وفى عام 2008، اعتذرت روما رسميا عن حقبة الاستعمار، على لسان رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، سيلفيو برلسكونى، الذى تعهد بتقديم خمسة مليارات دولار، كتعويضات للدول والشعوب المتضررة، فى شكل استثمارات على مدى 25 عاما. وفى خطوة مشابهة، قدم رئيس الوزراء الهولندى، مارك روته، نهاية الشهر الفائت، اعتذارا رسميا، عن دور بلاده فى العبودية، التى اعتبرها جريمة ضد الإنسانية. رغم أنها أسهمت فى تمويل «القرن الذهبى» الهولندى، الذى شكل فترة ازدهار للتجارة البحرية إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حينما الهولنديون فى نحو 600 ألف أفريقى بين أفريقيا وأمريكا الجنوبية والكاريبى.
أثناء جولته الملكية بمنطقة الكاريبى، فى مارس الماضى، تحدث الأمير، ويليام، فى جامايكا، عن «حزنه العميق بشأن العبودية البغيضة، التى ما كان يجب أن تحدث وتلوث تاريخ بريطانيا إلى الأبد». لكنه واجه عاصفة من الاحتجاجات التى تطالب البريطانيين بدفع تعويضات لجامايكا عن تجارة الرقيق، وإنهاء تبعيتها للتاج البريطانى. مع ذلك، لم تستجب بريطانيا، مثلما لم تعتذر عن احتلالها لمصر أو الهند، أو حتى للشعب الفلسطينى عن وعد بلفور، الذى مهّد لإنشاء «الكيان الصهيونى الغاصب» على الأرض الفلسطينية؛ فيما احتفلت حكومة، تيريزا ماى، عام 2017، بمئوية إصداره المشئوم.
ردا منها على الإلحاح الجزائرى، منذ العام 1962، للاعتذار رسميا عن الموبقات الاستعمارية، تمادت فرنسا فى تمنعها. حيث دأب الرؤساء الفرنسيون المتواليون على مناشدة الجزائريين التخلى عن مطلب الاعتذار الرسمى، مع طى صفحة الماضى ونسيانه، والتركيز على المستقبل. وما كاد الرئيس ماكرون يبدى استعدادا إيجابيا مغايرا بهذا المضمار، حتى تراجع، تحت وطأة الضغوط الداخلية، معلنا رفضه الاعتذارعن التاريخ الاستعمارى لبلاده فى القارة الأفريقية. مؤكدا أن الاعتذار لن يحل المشكلة، فيما يمكن للاعتراف أن يقود إلى الحقيقة؛ داعيا إلى إعادة كتابة تاريخ مشترك انطلاقا من تلك المقاربة.
من بين عوامل شتى، تعيق اعتذار الدول الاستعمارية عن ماضيها المشين، برأسه يطل تخوفها من الاضطرار إلى دفع تعويضات ضخمة، أو تسليم الأرشيفات ذات الصلة. خاصة أن الذاكرة الوطنية للشعوب لا تنسى، بينما لا تفرط ضمائر الأمم فى تراثها. فقبل قليل، تعرض رئيس الوزراء الهندى، مانموهان سينج، لعاصفة من الانتقادات داخل بلاده، إثر إقراره بوجود تداعيات إيجابية للاحتلال البريطانى للهند، مثل شبكتها العتيدة للسكك الحديدية. وأخيرا، أشار أكاديمى صينى، إلى استمرار تموضع مرارات الإذلال اليابانى لبلاده، بين طيات الذاكرة الوطنية الصينية.
من عجب، أن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بشأن ماضيها الكلونيالى، لم يكن حكرا على حكوماتها وقادتها فحسب، وإنما امتد ليطال غالبية شعوبها. ففى فرنسا، وبعدما أبدى ماكرون، خلال حملته الرئاسية الأولى، ثم إبان أولى زياراته الرسمية للجزائر، استعدادا لتقديم تنازلات فى هذا الملف الشائك. تلقى حماسه انتكاسة صادمة، إثر تعرضه لطوفان من الانتقادات والمضايقات، من لدن تيارات أقصى اليمين، ما دفعه للتقهقر، إلى حد المزايدة على اليمين المتطرف فى هذا الخصوص. وفى هولندا، أظهرت نتائج استطلاع للرأى أجرته محطة تلفزة «إن أو إس»، قبل انقضاء العام المنصرم، معارضة نصف الهولنديين اعتذار بلادهم عن ماضيها الاستعمارى.
فى مؤلفهم المعنون: «زمن الاعتذار.. مواجهة الماضى الاستعمارى بشجاعة»، والذى أصدرت الهيئة العامة للكتاب، ترجمة له عام 2019، يؤكد أربعة من الباحثين والمؤرخين الغربيين، أن الدول الاستعمارية الغربية تفتأ تستنكف التعاطى مع مستعمراتها السابقة فى العالم الثالث، على ذات النحو الذى تعاملت به فى اتفاقية «وايتانجى» لعام 1840. وهى التى هندست العلاقات بين الحكومة النيوزيلندية وشعب «الماورى»، أو سكان البلاد الأصليين. كما مهدت السبيل لاعتذار ملكة بريطانيا ورئيس نيوزلندا، له فيما بعد. فقليلة هى الدول، التى قدمت اعتذارات لفظية، يشوبها الالتباس، للدول النامية، عن ماضيها الاستعمارى. إذ لم تصغها فى وثيقة رسمية واضحة، تستتبع التزامات قانونية صارمة، بتعويضات مالية، لجبر الأضرار الاقتصادية والنفسية للأمم المكلومة. تلكم التى كابدت الاستعمار المزمن، والنهب الممنهج لثرواتها، والمصادرة المجحفة لسيادتها وشخصيتها الاعتبارية، والإعاقة المقيتة لتنميتها المستقلة.
ينحو الخطاب الغربى التقليدى، الذى ساد منذ عصر التنوير، ونهض على أساسه مشروع الحداثة الغربية، باتجاه التفرقة بين البربرية، التى تميز شعوب العالم قاطبة؛ والمدنية، التى يستاثر بها الغرب منفردا، بعدما خرج مُظفرا من غيابات ظلامية القرون الوسطى. ليطرق أبواب الثورة الصناعية، مزودا بالعلم والتكنولوجيا، وبالآلة الحربية الحديثة، التى خولته الاضطلاع بأشرس هجمة استعمارية فى التاريخ الحديث، حيال العالم الثالث. فمن رحم ذلك الخطاب العنصرى البغيض، انبلجت نظرية «عبء الرجل الأبيض» لتمدين الشعوب البربرية الهائمة فى جهالاتها وتخلفها!!!. ولقد شكلت تلك النظرية، وغيرها من الإدراكات المعرفية الغربية المتحيزة ضد «الآخر» غير الغربى، مبررا إيديولوجيا لإضفاء الشرعية على الظاهرة الاستعمارية الخبيثة. وهى ذاتها، التى أنتجت الأساطير الفكرية المؤسسة للنظرية العنصرية، التى سادت طوال القرن التاسع عشر،وحتى بدايات القرن العشرين؛ فيما لم يبرأ زماننا من ارتداداتها. ففى سفره، الصادر عام 2016، بعنوان: «ثورة.. إنها معركتنا من أجل فرنسا» سلط، الرئيس الفرنسى ماكرون، الضوء على التداعيات الحضارية للاحتلال الفرنسى للجزائر، كمثل نشوء دولة جزائرية حديثة، ونمو ثروتها، وازدهار طبقتها الوسطى.
مع استمرار التقاعس الأممى عن اعتماد آلية ملزمة، قانونيا وأخلاقيا، بغية إنصاف ونصرة الأمم المتضررة من الاستعمار؛ يظل إعراض الدول الاستعمارية السابقة عن الاعتذار وجبر الأضرار، وقودا يؤجج الكراهية، ويكرس ثقافة الصراع، وينكأ جراح الماضى، ويجتر عذابات الذاكرة التاريخية. كما يدعم تفشى الإرهاب الظلامى، ويغذى استشراء المد اليمينى المتطرف. حيث يُزين للإرهابيين، حججهم الفقهية الزائفة لاستهداف غير الموالين. فيما يدبج لليمينيين الموتورين، مسوغاتهم الإيديولوجية المعوجة، لممارساتهم العنصرية والعدوانية إزاء «الآخر».