مثلما استطاعت تنظيمات الجهاد الإسلامى التكفيرى العنفى تغيير مسمياتها ووسائل عملها وأهدافها المرحلية عبر العقود من السنين، فإنها ستستطيع بعد كل معركة تخسرها فى العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا، وفى أى مكان فى الأرض العربية وفى العالم، أن تغير من ملامحها وأقنعتها لتستمر فى الوجود. من هذه التغييرات المنتظرة حديث قادتها عن الاستعداد للانتقال من مرحلة الجيوش واحتلال الأراضى وإقامة حكم الخلافات إلى مرحلة الذئاب المنفردة.
تقول إحدى تعليماتهم إلى أتباعهم: احلقوا لحاكم واستبدلوا ملابسكم بالملابس الغربية وتعطروا بالعطور التى تحتوى على الكحول.
نحن إذن أمام امتداد فى الأفق المستقبلى البعيد، بتكيفات لا حصر لها ولا عد، ولكن ببقاء ذات الفكر ونفس الفهم الدينى الكامنين وراء أكبر وأعقد ظاهرة سياسية – أمنية – اجتماعية – ثقافية سيواجهها العالم طيلة هذا القرن.
بالرغم من أهمية الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التى تقف وراء هذه الظاهرة، إلا أننا نعتقد مع كثيرين آخرين، بأن السبب الأهم والأخطر يكمن فى علل وأزمات المجال الدينى الإسلامى الذى أحاط بمنطوق الوحى وبفهم مقاصده الكبرى وقيمه السامية.
***
إذا كانت محاولات إصلاح تلك العلل والأزمات قد توجهت إلى الإصلاح الذاتى الدينى فى حقول من مثل علوم الحديث والفقه والاجتهاد، منذ المحاولة الكبيرة لمحمد عبده ومجموعة متميزة من الإصلاحيين الإسلاميين المبدعين، إلا أن الإصلاح الذاتى ذاك لن يكفى. إنه جناح واحد لن يكفى لتحلق حركة الإصلاح فى الفضاء الحضارى السامى الإنسانى.
فهناك حاجة للجناح الإصلاحى الثانى: جناح التعامل الإسلامى مع عدد من أطروحات الحداثة التى تتحدى المجتمعات العربية والإسلامية فى العصر الذى نعيش. ونحن هنا لا نتحدث عن تعامل متبنى تقليدى وسلبى أعمى، وإنما عن تعامل تلاقحى تفاعلى، فكرى ومنهجى، ندى وإبداعى.
لكن ذلك التعامل التحليلى النقدى التجديدى لمقولات الحداثة يتطلب أن يسير يدا بيد مع الإصلاح الذاتى للمجال الدينى الذى ذكرنا. وبدون ذلك لا يمكن الوصول إلى حداثتنا العربية والإسلامية الذاتية.
لنتذكر بأنه لا توجد حداثة واحدة وإنما حداثات بظلال ومستويات متعددة.
من بين هذه الشعارات والتعابير والقضايا التى أصبحت فى صلب الواقع الذى يعيشه الفرد المسلم وتعيشه المجتمعات الإسلامية، ويتفاعل بألف شكل وشكل مع الواقع الذى يعيشه غير المسلم وتعيشه المجتمعات غير الإسلامية، من بينها وأبرزها الآتى:
1ــ العلمانية: سواء أجرى الحديث عن العلمانية (من العلم) أو (العلمانية) (من العالم الدنيوي)، أو قسم الموضوع إلى علمانية إيمانية وعلمانية إلحادية، أو إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة، أو إلى تقسيمات أخرى، فإن الموضوع يحتاج إلى الحسم من خلال جهد فكرى وفلسفى عميق يخرجنا من المشاحنات التى طال عليها الزمن. فحسم هذا الموضوع له تأثيراته الكبرى على عوالم السياسة والاجتماع والثقافة والفنون والدين.
2ــ موضوع العنف: هذا موضوع أصبح حديث الساعة. ولذلك لابد من حسم جوانبه النظرية والإيمانية ومحدداته ومشروعيته، التى تستقى من المقاصد الكبرى لمنطوق الوحى الإلهى فى الدرجة الأولى.
3ــ قبول الآخر: أصبح موضوع التعايش السلمى بين أتباع الدين الإسلامى والديانات الأخرى يحتاج إلى قراءات جادة تزيل ما علق بهذا الموضوع من سوء فهم للرسالة المحمدية.
4ــ التخلص من ترسبات التاريخ فى الذاكرة الجمعية، أى تطهيرها الذهنى والنفسى من مشاحنات وبلادات وآلام الماضى، سواء أكان تاريخ المسلمين فيما بينهم أو تاريخ المسلمين مع غيرهم.
5ــ الديمقراطية، فما عاد استرجاع تعابير البيعة وأهل الحل والعقد والشورى والخلافة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتكريم المرأة كافيا. هناك استحقاقات للديمقراطية، مبادئ وممارسة، تحتاج إلى حسم نهائى وواقعى.
فى داخل هذا الموضوع تكمن متطلبات كثيرة من مثل المواطنة، والمجتمع المدنى، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد والضمير، ومساواة الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات، والحريات الشخصية والاجتماعية، وممارسة الفنون، وغيرها. وفى السياسة هناك مواضيع تبادل السلطة والتعددية والأيديولوجية وأسس قيام الدولة والمبادئ الدستورية. كل ذلك يحتاج إلى أن يصل إلى الوقوف على أسس مقبولة مجتمعيا وغير متحاربة ليل نهار.
***
من الضرورى الاستيعاب الكامل بأن الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية فى بلاد العرب قد تغيرت، وعليه فإن معانى منطوق الوحى الإلهى، تحتاج أن تتعامل، بقوة وإلحاح وإبداع وتفهم، مع كل التغيرات.
موضوع إصلاح المجال الدينى الذى يقود إلى إصلاح حداثى هو وحده الذى سيقف فى وجه الأهوال التى ستفرضها ظاهرة الذئاب المنفردة على بلاد العرب والمسلمين وعلى العالم كله.