غسيل المغسول
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الإثنين 9 مايو 2022 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
المعنى بالمغسول هنا هو أدمغتنا أو أدمغة بلاد وشعوب العالم الثالث التى تعرضت خلال سنوات طويلة لعملية غسيل مخ مكثفة من خلال الآلة الإعلامية والتعليمية والفنية الهائلة للعالم الغربى، التى تولت تعليم كادرات الصفوة فى العالم الثالث وتتولى نقل الأخبار والأحداث إليهم بشكل انتقائى ومصبوغ بفكرهم وأيديولوجياتهم. وحتى الفن والترفيه يقدم بشكل يصنع مزاجا عاما وذوقا عاما متعاطفا مع الغرب. وفى هذا الصدد قالت رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندى إن مشكلتنا فى العالم الثالث ليست أننا نرى العالم من خلال منظار غربى، ولكن المشكلة أننا بتنا نرى أنفسنا من خلال منظار غربى!
لقد شكلت الآلة الإعلامية الغربية أجيالا منبهرة بالنموذج الغربى فى ملبسها وسلوكها وحتى لغتها، حتى بات بعض الأهالى يتفاخرون بأن أولادهم لا يتحدثون لغة بلادهم ويتحدثون الإنجليزية. عمليات غسيل المخ كرست فى وجداننا تفوق الغرب وتقزمنا أمامه.
نشطت الآلة الدعائية والإعلامية لتكريس مفاهيم فى وجداننا لعل أخطرها أن الغرب لا يقهر؛ رغم أنه بمراجعة هادئة للواقع نجد أنه قهر وهرم فى العديد من المرات، حين انتصرت فيتنام على فرنسا فى معركة «ديان بيان فو» فى عام 1954، وهزمت بريطانيا وفرنسا على ضفاف السويس أمام مصر فى عام 1956، وهزمت الولايات المتحدة فى خليج الخنازير فى كوبا عام 1961، وهزمت الولايات المتحدة فى فيتنام عام 1975، وهزمت القوة الأمريكية التى بعثت لإنقاذ الرهائن فى السفارة الأمريكية فى طهران فى عام 1980، وهزمت قوة المارينز الأمريكية التى أرسلت للتدخل فى بيروت عام 1993 وانسحبت بعد مقتل مائتين من قواتها، وحتى الصومال استطاعت أن تسقط المروحيات الأمريكية فى مقديشيو فى عام 1993، ثم كانت الهزيمة الأخيرة للولايات المتحدة فى أفغانستان.
ليس الغرض من هذا السرد لهزائم الغرب إنكار القوة المادية الهائلة للغرب، ويظل نموذج صدام حسين بتحديه الأحمق لهذه الحقيقة وما نتج عن ذلك من سقوطه ودمار العراق ماثلا فى الأذهان، ولكن الغرض منه إظهار أن الغرب ليس ذلك التنين الرهيب الذى يجب أن نولى الأدبار منه كلما زمجر أو تجهم، ولكننا يمكننا مواجهته بالحكمة والتروى وحسن التدبير.
•••
تعمل آلة غسيل الأدمغة على التركيز على التجاوزات التى تحدث خارج حدود الغرب وغض الطرف عما يحدث فيه، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك كان منح جائزة نوبل فى الأدب للسوفيتى ألكسندر سولجنيتسين سنة 1970 عن كتابه «أرخبيل الجولاج ــ The Gulag Archipelago» الذى يصور معاناة المنفيين إلى سيبيريا من معارضى الشيوعية والنظام السوفييتى، وتلقفت دور النشر الغربية الكتاب وعملت على توزيعه على أوسع مجال، فى حين أن الفظائع التى ارتكبتها الولايات المتحدة فى سجن أبوغريب فى العراق وفى معتقل جوانتانامو لم تجد من يتولى نشرها أو منحها جوائز.
يضاف إلى ذلك الفظائع التى وقعت فى شيلى وقتل رئيسها الشرعى سلفادور الليندى والتنكيل بكل من عارض الحكم العسكرى للجنرال بيونشيه، وفى إطار الحملة لشيطنة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، انتجت هوليوود فيلم «جسر على نهر كواى» فى عام 1958 الذى يصور قسوة الحراس اليابانيين فى معسكر الأسرى الذين أجبروا على العمل فى بناء جسر لخدمة المجهود الحربى اليابانى، وحصل الفيلم على أربع جوائز أوسكار بينما لم تفكر هوليوود فى إنتاج فيلم عن الطريق الذى بنته فرنسا فى فيتنام أثناء حرب التحرير وعمل فيه الأسرى من الفيتناميين الذين يحاربون من أجل استقلال بلدهم، وهو الطريق الذى قيل إنه تسبب فى موت أكبر عدد من الضحايا فى الكيلو متر الواحد. ولم تفكر هوليوود فى إنتاج فيلم عن فرقة العمالة المصرية التى جندتها بريطانيا قصرا أثناء الحرب العالمية الأولى وانتزعتهم من قراهم وحقولهم وأهلهم وأرسلتهم لبناء التحصينات لرد الهجوم التركى على سيناء وقناة السويس، وأرسلت بعضهم إلى أوروبا لحفر الخنادق، ومات الآلاف منهم وكادت المجاعة تصيب مصر لأن المحاصيل فى الحقول لم تجد من يجنيها.
تركنا تاريخنا للمؤرخين الغربيين يكتبوه، فنالوا من أبطالنا ورموزنا؛ ثورة الهند على شركة الهند الشرقية صارت تمردا، كذلك ثورة البوكسر على النفوذ الأجنبى فى الصين صارت تمردا همجيا بربريا، المهدى فى السودان كان مهووسا دينيا وسفاحا، عرابى كان جاحدا لفضل ولى النعم، ثوار المكسيك إيمليانو زاباتا وبانشو فيا كانا قطاع طرق ولصوص. وفى العصر الحديث جمال عبدالناصر ومحمد مصدق دكتاتوران دمويان نهبا أموال الأرامل والأيتام الذين استثمروا أموالهم فى أسهم قناة السويس وبترول إيران.
نهبوا آثارنا ووضعوها فى متاحفهم وأقنعونا بعجزنا عن صيانتها وعرضها العرض اللائق ونجد بيننا من يدافع عن بقاء رأس نفرتيتى فى متحف برلين وحجر رشيد فى المتحف البريطانى وتمثال الكاتب المصرى ومتحف اللوفر.
لقد صاغ الغرب مقولة البربرية الشرقية Oriental Barbarism لدمغ شعوب الشرق بالتخلف والبربرية وأنهم كانوا ينتظرون الرجل الأبيض لغزوهم ومدينتهم كمبرر للاستعمار والنهب والاستغلال، فى حين أنه بمراجعة تاريخ الغرب نجد أعمالا بربرية يشيب لها الولدان منها قيام الملك بازل الثانى ملك بيزنطة بقلع أعين عشرة آلاف أسير من البلغار فى القرن العاشر الميلادى وقيام الأمير فلاديمير الثالث الملقب بالمخزون، الذى أوحى للكاتب برام ستوكر بشخصية دراكولا، بخوزقة الآلاف من أسرى الأتراك وتركهم فى الميدان لتلتهمهم الجوارح فى القرن الخامس عشر وقيام الملك الإنجليزى تشارلز الثانى بنبش قبر أوليفر كرومويل بعد وفاته وشنق رفاته، وهو سلوك ترسخ لدى الإنجليز فكرروه سنة 1889 عقب انتصارهم على قوات المهدى فى معركة أم درمان وأمر الجنرال كتشنر بنبش قبر المهدى وسحل رفاته وإرسال جمجمته إلى الملكة فكتوريا فى لندن. وفى العصر الحديث كان استخدام الغازات السامة فى الحرب العالمية الأولى وقصف هيروشيما وناجازاكى بالقنابل الذرية وقصف المدنيين فى فيتنام بالنابالم أعمالا بربرية.
•••
ليس الغرض من هذا السرد شيطنة الغرب وتبرئة ساحة الشرق من كل السلبيات وكل النقائص، فالشرق قصر فى حق نفسه وكان من نتيجة هذا التقصير تخلف وفقر وظلم وجهالة، ورأى أبناء العالم الثالث بعد انقضاء الاستعمار على يد أبنائه هولا لا يقل عما رآه على يد المستعمر، ويكفى أن نسوق أمثلة صدام حسين والقذافى فى البلاد العربية وموبوتو وعيدى أمين وبوكاسا فى أفريقيا وبول بوت فى كمبوديا. الشرق والعالم الثالث محتاج لإصلاح وإقامة أركان دولة لمواجهة المستقبل، ولكن تحفظى هو على حالة التقزم والدونية وعدم الثقة السائدة فى العالم الثالث والانبهار بالتجربة الغربية. مما لا شك فيه أن الغرب حقق نجاحات كثيرة يمكننا أن ندرسها ونستفيد منها خاصة فى مجال دول المؤسسات وتداول السلطة بشكل سلمى والإدارة الرشيدة والتعليم والتنمية الاقتصادية بشرط أن نأخذ من الغرب بشكل انتقائى ما يناسبنا ويناسب ظروفنا وتاريخنا وأخلاقنا ولا نقلد تقليدا أعمى ولا يفرض علينا أن نقبل ونرفع أعلام الرينبو وما يمثله وأن نقبل الإلحاد والعرى والانفلات الأخلاقى.
لعلى أختتم كلامى بالتنويه بأن الغرض من السرد السابق ليس شيطنة الغرب أو الادعاء بأن الشرق يحتكر الفضيلة وأن صفحته بيضاء ناصعة، بل أذكر أنه إذا كنا بحاجة لإعادة التوازن إلى أدمغتنا التى غسلها الغرب فإننا أيضا يجب أن نغسل تاريخ الشرق والعالم الثالث من ذكرى الطغيان والفساد وقيادات دكتاتورية فاسدة غسلوا بدورهم أدمغة شعوبهم بأوهام البطولة الزائفة والمجد الزائف. علينا أن نغسل المغسول لنزيل الألوان التى أضافتها لعقولنا مساحيق الغسيل التى استخدمها الشرق والغرب معا ليقود عقولنا ناصعة متحررة من كل صبغة لتقودنا إلى الهدى والرشاد.