مصر.. وتقلبات العالم والإقليم
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 9 مايو 2025 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
لم يعد بخافٍ على أحد التشابه الطاغى بين الأوضاع العالمية التى نمر بها اليوم وبين ما كان من حال الدنيا وأحوال شعوبها فى الربع الأول من القرن العشرين. كانت الحرب العالمية الأولى بما خلفته من دماء ودمار وإنهاك اقتصادى واجتماعى ونفسى وفوضى سياسية قد كتبت نهاية حقبة السيطرة الأوروبية على العالم التى امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، وتمثلت ذروتها فى اقتسام إمبراطوريات وممالك القارة العجوز لأصقاع الأرض خارجها فى مؤتمر برلين 1884.
حين صمتت المدافع فى 1918، كانت هيمنة أوروبا على الاقتصاد العالمى وخطوط التجارة والملاحة تتراجع لصالح قوة صناعية وعسكرية بازغة كالولايات المتحدة الأمريكية، التى شرعت فى مد شبكات نفوذها برًا وبحرًا وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها وبناء قواعد لسفنها. واليوم فى 2025، تترك الولايات المتحدة مكانها كالقوة التجارية والاقتصادية والسياسية الأهم فى العالم وتصطنع بيئة دولية بالغة الاهتزاز.
•••
فيما خص المحروسة مصر، فإنها تواجه بيئة إقليمية ودولية بالغة الصعوبة، تضغط على أمنها القومى وتهدد مصالحها الوطنية وتدفعها إلى العمل المستمر لتوسيع مساحات فعل سياستها الخارجية. فالحروب والصراعات المشتعلة فى الشرق الأوسط، وما يرتبها من عنف الممارسات الإسرائيلية فى غزة والضفة الغربية كما فى لبنان وسوريا، وكذلك من جهة الممارسات الإيرانية التى لم تتوقف عن توظيف الميليشيات القريبة منها إن فى المشرق العربى أو فى اليمن فى صراعها المتواصل مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومن جهة أخرى الحرب فى السودان وقضية سد النهضة الإثيوبى، تفرض على مصر البحث المستمر عن تحالفات متماسكة ومتنوعة.
أما التقلبات السريعة التى ترد على السياسة الخارجية الأمريكية مع إدارة دونالد ترامب الثانية، فهى ترتب تحديات إضافية لمصر التى لم تعد تأمن ما يمكن أن يطرحه ترامب فيما خص القضية الفلسطينية (كالترويج لخطط التهجير الإجرامية من غزة وتأييدها لجرائم الاستيطان والضم فى الضفة الغربية) أو فيما يتعلق بمجمل قضايا الشرق الأوسط (الصمت على اعتداءات إسرائيل المتكررة على لبنان وسوريا والضغط على إيران).
فى هذه السياقات الإقليمية وفى وضع دولى يتسم بتوترات متصاعدة بين القوى الكبرى وحرب فى أوكرانيا لم تتوقف بعد وحروب تجارية تسببها رسوم ترامب وعقوباته، تبدو أهمية انضمام مصر إلى تجمع البريكس وما يمكن أن تحصل عليه اقتصاديا وماليا وتنمويا وكذلك جيو-استراتيجيا.
ولمصر مجموعة من الأولويات الكبرى التى تحدد سياستها تجاه البريكس. أولاً، تسعى مصر، من خلال انضمامها إلى البريكس، إلى تأمين مساعدات مالية وتنموية واستثمارات كبيرة لاقتصادها، بالإضافة إلى ما تتلقاه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى.
ثانيًا، تأمل الحكومة المصرية، من خلال عضوية البريكس، فى توسيع التبادل التجارى بالعملات الوطنية مع الدول الأعضاء الأخرى، وخاصة الصين، الشريك التجارى الأكبر لمصر. على مدار السنوات الماضية، عانت مصر من أزمات متتالية مرتبطة بتوفر الدولار الأمريكى فى مبادلاتها التجارية، مما أدى إلى موجات انخفاض كبيرة فى قيمة الجنيه المصرى. لذلك، تُمثل الفرص المستقبلية المتعلقة باستخدام العملات الوطنية بين دول البريكس فى تجارتها أولويةً بالغة الأهمية.
ثالثًا، ترى القاهرة أن الانضمام إلى مجموعة دولية تضم بكين وموسكو ونيودلهى، بالإضافة إلى عواصم رئيسية فى الجنوب العالمى، يُمثل خروجًا عن الاعتماد الأحادى على الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وتنويعًا لوجهات التعاون الاقتصادى والسياسى والدبلوماسى والعسكرى.
•••
تتوقع الحكومة المصرية أن يكون للبريكس الأثر الأكبر فى عدة مجالات محددة. على المدى القصير، تتوقع الحكومة المصرية أن تُسهم عضويتها فى البريكس فى تأمين فرص تمويل إضافية واستثمارات أجنبية مباشرة لإنعاش الاقتصاد. ليس أمام مصر خيار سوى مواصلة إدخال إصلاحات هيكلية اقتصادية تدفع تدريجيًا، الدولة الأكثر سكانًا فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نحو تحديث البنية التحتية، ومشاريع الطاقة المتجددة، والاقتصاد الأخضر.
على المدى المتوسط، ترغب مصر فى أن تُصبح البريكس تكتلًا للتجارة العالمية بعملات غير الدولار الأمريكى، بالإضافة إلى تكتل لتعزيز جهود التنمية المشتركة فى جميع أنحاء الجنوب العالمى. أعربت الحكومة المصرية مرارًا عن اهتمامها بالتعلم من النجاحات التنموية فى الصين والهند واستخدامها كنماذج توجيهية لجهودها الخاصة.
على المدى الطويل، ترى مصر فى تجمع البريكس تكتلًا قادرًا على الاضطلاع بأدوار مماثلة لأدوار حركة عدم الانحياز فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. وتنظر الدبلوماسية المصرية إلى البريكس كتجمع يمكنه المساعدة فى تمهيد الطريق لنظام عالمى متعدد الأقطاب، لا تكون فيه الولايات المتحدة القوة المهيمنة الوحيدة، وهو نظام عالمى لا يُعيد إنتاج ثنائية القطبية التى سادت فى النصف الثانى من القرن العشرين، بل بأقطاب متنافسة مختلفة.
•••
كذلك تفكر الحكومة المصرية قطعا فى الكيفية التى تُشكل بها التطورات الجيوسياسية والدولية الأخيرة حول السياسات الأمريكية والتوترات بينها وبين الصين والاتحاد الأوروبى قوة إضافية دافعة لانفتاح مصر على البريكس.
تنظر مصر إلى شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة كمكون أساسى فى سياستها الخارجية، وتعتبر استمرارها شرطًا لتحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة. للولايات المتحدة دورٌ رئيسى فى مساعدة مصر على الصعيدين الثنائى والمتعدد الأطراف، وذلك من خلال الدعم الذى تتلقاه من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولي. كما تعتبر مصر الشراكة مع الولايات المتحدة ضرورةً لتحقيق الأمن والسلام فى الشرق الأوسط، وللتغلب على تحديات الأمن القومى الأخرى التى تواجهها، مثل تداعيات سد النهضة الإثيوبى الكبير على أمنها المائى.
إلا أن السياسات الأمريكية المنحازة تجاه إسرائيل والشرق الأوسط منذ اندلاع حرب غزة فى أكتوبر 2023 تثير قلق الحكومة المصرية، وفاقمت من وطأتها طرح الرئيس ترامب لخطط مرفوضة مصريا بالكامل. فقد رفضت القاهرة تأييد واشنطن للخطط الخطيرة لليمين الإسرائيلى المتطرف لضم الضفة الغربية المحتلة وتهجير سكان غزة الفلسطينيين، وتصاعدت فى أروقة الحكومة المصرية تساؤلات جدية حول مستقبل العلاقات الأمريكية المصرية مثلما لوحت القاهرة أكثر من مرة بالتداعيات الخطيرة للممارسات الإسرائيلية الراهنة على معاهدة السلام بين الدولتين. ومن المؤكد أن الانحياز الأمريكى إلى إسرائيل سيدفع مصر إلى العمل الجاد لتطوير علاقاتها الثنائية مع دول مثل الصين وروسيا والهند باتجاه شراكات استراتيجية شاملة، والاستثمار بشكل أكبر فى المنظمات المتعددة الأطراف التى تضم تلك القوى الكبرى وتضم كذلك دول قائدة فى الجنوب العالمى كالبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرهما.
من هنا، تأتى فى هذا السياق الأخير أهمية الانضمام المصرى لتجمع البريكس وضرورة فاعليتها داخله.