نهاية الطريق: تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 9 أغسطس 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة THE NEW YORKER مقالا للكاتبين حسين أغا وأحمد سميح الخالدى، المحررين بالمجلة والمشاركين السابقين فى مفاوضات السلام الفلسطينية ــ حول تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية الذى يعود إلى عدة أسباب منها تخلى الحركة عن خيار المقاومة.
استهل الكاتبان مقالهما بذكر أنه فى الوقت الذى يستعد فيه الرئيس ترامب لمحاولة أخرى لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، تستعد إسرائيل لتقديم صفقة مقبولة للجانب الفلسطينى وهو استعداد يثير الكثير من الشكوك؛ فمع تأزم المشهد السياسى الفلسطينى متمثلا فى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) الذى يجسد آخر فرصة ضئيلة للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض: فهو الزعيم الوطنى الوحيد المتبقى لشعبه، وبالنسبة للرئيس ترامب وفريقه، وكذلك لجميع الذين يسعون إلى إنهاء هذا الصراع الذى يعود إلى قرن طويل، لا ينبغى أن يكون هناك أى شك فى مدى إلحاح هذه اللحظة. فبعد عباس، لن تكون هناك قيادة فلسطينية تمثيلية وقانونية حقيقية أخرى، ولن توجد حركة وطنية متماسكة للحفاظ عليها لفترة طويلة قادمة.
على مدى ستة أيام فى أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر 2016، عقدت حركة فتح الوطنية الفلسطينية مؤتمرها السابع فى رام الله، عاصمة السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من الخطب المطولة والهواء الاحتفالى، فإن المؤتمر لم يفعل شيئا يذكر لتبديد ما أضحى لا لبس فيه: تشرذم وتفكك الحركة الوطنية الفلسطينية ؛ فلم يتطرق الاجتماع إلى أى من التحديات السياسية المتزايدة التى تواجه الشعب الفلسطينى. 
إن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ــ التى أسسها ياسر عرفات والتى تجسدها السلطة الفلسطينية، فتح على مدى نصف القرن الماضى ــ وصلت إلى نهايتها. ومع تلاشى مؤسساتها وتلاشى قادتها، لا يوجد خلف واضح للوقوف على مكانها.
وإذا نظرنا إلى الوراء، فإن اتفاقات أوسلو لعام 1993 شكلت أعلى إنجاز سياسى للحركة الوطنية الفلسطينية وبداية أفولها البطيء. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، فالحركة تتأرجح بين سندان مهمتها الثورية الأصلية ومطرقة مسئوليتها الجديدة كدولة تملك مؤسسات مدنية وبيروقراطية وأمنية.
قد سعت الحركة الوطنية لفترة من الوقت، مع زعيم المقاومة التاريخى، إلى التوفيق بين مهماتها المتناقضة. ولكن، مع وفاة عرفات، فقدت فتح ليس فقط المؤسسين وقائد المرحلة التأسيسية ولكن سبب وجودها. فبدون «النضال المسلح»، لم يكن للحركة الوطنية أى أيديولوجية واضحة، ولا خطاب محددا، ولا خبرة مميزة أو شخصية. وفى غياب دولة حقيقية ومستقلة، لم تتمكن من تحويل نفسها إلى حزب حاكم، كما فعل المؤتمر الوطنى الأفريقى، على سبيل المثال، فى جنوب أفريقيا. وقد بقيت مبتورة ومتوقفة: حركة تحرير لا تفعل الكثير من التحرر، عاجزة عن الدخول فى عملية تسوية مثمرة، سلطة حكومية ترضخ لوسائل التعنت الإسرائيلية. 
وبعد وفاة عرفات ومعظم زملائه المؤسسين للحركة، تضاءلت قدرة فتح على حمل أجزائها المتكسرة. وقد تفاقم ذلك بدوره بسبب فشل قادتها فى اجتذاب دماء جديدة. وخلافا لتجربة المنفى التى شكلت سندا فلسطينيا موحدا، لم تتمكن فتح من إنتاج قادة قادرين على إقامة مؤسسة وطنية حقيقية من عناصر محلية عالية؛ فبدون وجود قادة جدد، لا توجد أدلة مقنعة على المصداقية، كذلك لم تحقق الحركة أى نجاح ملحوظ فى الحكومة، ولا إحراز تقدم نحو السلام، فقد اختفت فتح بشكل أساسى ككيان سياسى حقيقى.
كانت إدارة عرفات جزءا لا يتجزأ من دينامية الحركة الوطنية الفلسطينية، والانتقال من عرفات إلى عباس مر بسلاسة لأنه اعترف بأنه استمرار للمبادئ التأسيسية للحركة الوطنية. وقد يكون عباس بحاجة إلى انتخابات رسمية لتعزيز موقفه وكسب قبوله فى المجتمع الدولى، ولكن من دون أوراقه الثورية السابقة وارتباطه بعرفات.
***
يضيف الكاتبان أن عباس لم يكن يريد أن يكون شبيها بعرفات، وقد تضررت مكانته مع شعبه بشدة بسبب مشاركته المستمرة والعقيمة فى عملية السلام، ومعارضته الثابتة للنضال الثورى، وتفانيه المتهور فى التعاون الأمنى مع إسرائيل. ومع تمديد فترة ولايته إلى ما بعد ولايته الانتخابية الأولى، وضع النظام السياسى الفلسطينى العديد من خصائص النظام الرئاسى المكون من رجل واحد، ولكن بدون زعيم شعبية. وشهدت السنوات اللاحقة اتجاها متزايدا نحو المركزية، وتركيز السلطة. وبذلت جهودا حثيثة للسيطرة على ما تبقى من هياكل فتح التى تميل للثورية وإسكات المعارضة السياسية الحقيقية.
ولكن سنوات عباس كرئيس لم تكن دون حصتها من الإنجازات؛ فقد وفرت سياسته للسلام جدار حماية هائل ضد نوع من الضغوط الدولية المرتبطة بالعنف السابق للحركة الوطنية الفلسطينية وبالنسبة للبعض، فإن هذا بحد ذاته إنجاز وطنى رئيسى.، ومنذ عام 1994، كانت العديد من الشئون اليومية للبلدية، والصحة، والتعليم، وغيرها من المهام فى أيدى الفلسطينيين للمرة الأولى.
إن تفانى عباس فى المفاوضات والدبلوماسية واللاعنف قد حول العبء على الجانب الآخر. ففى الوقت الذى تتنازع فيه وثائق اعتماد القيادة الإسرائيلية الحالية على نطاق واسع، فإن صورة عباس الدولية كرجل سلام لا تزال سليمة إلى حد كبير. وفى الوقت نفسه، تمكن من التمسك بالمطالب الفلسطينية التاريخية والأساسية؛ إلا أنه لم يتردد عن أهداف منظمة التحرير الفلسطينية لدولة على طول حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحل عادل لمشكلة اللاجئين. لقد وضع حدا لفوضى الانتفاضة الثانية. وقد واصل العمل مع مجموعة واسعة من الآراء الإسرائيلية، وسعى بجد إلى زراعة ما تبقى من معسكر السلام الإسرائيلى، وإلى التعامل مع القادة والمجتمعات اليهودية فى الخارج. ولعل الأهم من ذلك أنه نجح فى عزل الشعب الفلسطينى عن الكثير من أعمال العنف وتدمير «الربيع العربى» ومن نمو الحركات السلفية والجهادية فى الضفة الغربية.
وبشكل عام، عزز عهد عباس الوضع الأخلاقى للفلسطينيين، وأدى إلى جذب المجتمع الدولى لقضيتهم. ولكن هذه الإنجازات تواجه خطر أن تطغى عليها الظروف والتحديات الجديدة. ربما ساعد عباس فى دعم شرعية القضية الفلسطينية، خاصة فى الغرب، لكن نهجه فشل فى إثبات قدر كاف من المردود فى مفاوضات السلام، أو تغيير الوضع الراهن غير المقبول، أو فى جذب الدعم الشعبى لإحياء ثروات الحركة المتدهورة. ولم تسفر السنوات الثلاث عشرة من حكمه عن أى تغيير يذكر فى موقف إسرائيل؛ فى الواقع، فإن شروط إسرائيل من أجل التوصل إلى حل نهائى بشأن قضايا مثل القدس، والأمن، ومدى السيادة الفلسطينية قد تفاقمت بشكل ملحوظ.
وقد شهد العقد الماضى أيضا سلسلة من التحركات الدبلوماسية الفلسطينية غير المتسقة وغير المدروسة بما فى ذلك الترحيب بتقرير غولدستون ثم التراجع عنه فى عام 2011؛ عن حرب غزة عام 2008؛ وعدم إحراز تقدم دبلوماسى حتى فى ظل إدارة أمريكية ودية نسبيا. ونتيجة لذلك، فإن فكرة مفاوضات السلام برمتها قد بدت شكلية مما زاد من إضعاف مصداقية الحركة الوطنية ومكانتها.
***
إن فقدان الأمل الفلسطينى فى تسوية تفاوضية يعكس فقدان الثقة فى الوكالات التى سعت إلى تحقيقها؛ فحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية قد كرسوا لحل الدولتين، ولكن إخفاقاتهم ــ من التحرير إلى الحكم إلى صنع السلام ــ قللت من التأييد الشعبى لاستصواب الهدف نفسه أو قابليته للاستمرار. ولذلك، فإن جميع قطاعات الشعب الفلسطينى تقريبا قد فقدت إلى حد كبير أى شعور حقيقى بالاستثمار فى دبلوماسيتها. ما ينظر إليه مرة واحدة على أنه برنامج وطنى موحد ينظر إليه الآن مع التشكك العميق واللامبالاة.
كما ذكر الكاتبان أن المحنة التى تواجهها الحركة ليست داخلية فقط، فما من شك أن البيئة الإقليمية والدولية قد تحولت بطرق غير مواتية؛ فلحظة «العالم الثالث»، التى وجد فيها النضال الوطنى الفلسطينى منزلا طبيعيا ضمن الحركات التحررية والمناهضة للاستعمار فى الجزائر وفيتنام، واعتمدته القوى الآسيوية الناشئة كجزء من إحساسها الجديد بالاستقلال، لم تعد قائمة. وقد شهدت الحقبة الأخيرة تحركا فى الاتجاه المعاكس؛ فقد يكون هناك فهم أكبر للقضية الفلسطينية فى الغرب، ولكن العديد من حلفاء العالم الثالث السابقين قد اختاروا المصلحة الذاتية الاقتصادية بدلا من الالتزام الأيديولوجى، وذلك مثل دعم الهند المتداعى للفلسطينيين فى العلاقات الدولية والعلاقات التجارية المتنامية مع إسرائيل فى الصين.
كما تغيرت البيئة العربية بشكل واضح؛ فهناك على الساحة العربية العديد من الصراعات السياسية مثل سوريا والعراق واليمن، ففى الماضى كانت هناك قاعدة شعبية كبيرة متعاطفة بشدة مع النضال الفلسطينى. فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت تعتمد إلى حد كبير على المساعدات العربية، ولكن تعدد المصادر قطع عن الحركة الكثير من مصادر التمويل التى وجهت لمناطق أكثر لديها صراعات ومشكلات متأزمة.
إن حقبة ما بعد عباس ستطلق مسارا غير محدد وغير متوقع. فالإرث التاريخى للآباء المؤسسين وبصمة الشرعية آخذة فى الاختفاء. ولا يملك اللاجئون الفلسطينيون والمجتمع الأوسع فى المنفى أى وكالة حقيقية أو وسيلة للتعبير أو أدوات تعكس إرادتهم. الصراع الدائر فى فتح مع حماس، والاضطرابات فى غزة والضفة الغربية، والفشل المؤسسى للسلطة الفلسطينية. كل ذلك يشير إلى شكل من أشكال القيادة المتعثرة والمفككة، التى تستند إلى الانتخابات الرسمية، وبالتالى، ومن المفارقات، على أسس أقل صلابة وتمثيلا حقيقيا.
وعلى الرغم من القيود التى يواجهها، قد يكون عباس آخر زعيما فلسطينيا يتمتع بالسلطة الأخلاقية والشرعية السياسية للتحدث والعمل نيابة عن الأمة بأسرها بشأن القضايا الوجودية الحيوية مثل الاتفاق النهائى مع إسرائيل.

***
ختاما يذكر الكاتبان أن الحركة الوطنية الفلسطينية التاريخية قد تحطمت وخلفها قد لا يكون واضحا ولا وشيكا. لكن الفلسطينيين لن يختفوا ببساطة، مطالبات الفلسطينيين بالعدالة والحرية قد ضمنت نفسها فى ضمير كثير من سكان العالم، كما أن ممارسات إسرائيل تتحدث نيابة عنها بعيدا عن قيمها المعلنة.
قد تكون فكرة التوصل إلى حل شامل ومتفاوض عليه يتضمن جميع العناصر الأساسية للنزاع قد تلاشت عن متناول الجميع. إن ما كان يطلق عليه «مشكلة فلسطين» قد يعاد تعريفه ويعاد تشكيله على نحو أفضل باعتباره سلسلة من التحديات، تتطلب كل منها شكلها الخاص للانتصاف: فهناك الآفاق المخففة للمشروع الوطنى الأصلى لتقرير المصير وإقامة الدولة والعودة؛ وإبعاد الشعوب عن ممثليها الرسميين؛ واقع انقسام غزة والضفة الغربية؛ استمرار المحاكمات والمحن فى الشتات؛ والنضال اليومى من أجل التحرر من الاحتلال والمساواة فى الحقوق فى إسرائيل.
إن شرارة الوطنية قد لا تزال تتعايش جنبا إلى جنب مع غضب الاحتلال والرغبة فى حياة حرة وطبيعية. لكن الحركة الوطنية تتطلب مشاركة جماهيرية حقيقية فى رؤية سياسية ومشروع عمل يتقاطع مع حدود المنطقة والعشيرة والطبقة، وقيادة محددة ومعترف بها بالشرعية والمكانة التمثيلية التى تمكنها من العمل باسم شعبها. هذا لم يعد لحركة فتح، أو منظمة التحرير الفلسطينية.

النص الأصلى 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved