مسنون في حياتي
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
كثيرون يخطئون إن ظنوا أن المسنين أقلية بسمات متشابهة وتصرفات نمطية ومطالب أو رغبات متقاربة وطموحات وتطلعات متدنية أو منعدمة، أو أنهم أقلية فى المجتمع بعقول متدهورة الصلاحية، وبقلوب خاشعة أو مستسلمة وصبر سريع النفاذ، أو أقلية بقدرات على تحمل الآلام والصدمات العاطفية ولكن ضعفت حتى تآكلت. عندى الأدلة على أنها فى غالب الأحوال أقلية حكيمة عند اتخاذ قرارات هامة، وأقلية تتحمل بمسئولية وصلابة مصير الخاضعين لها والسائرين فى ركابها بالعرف أو بالعقود والقوانين، تتحملها أيضا بالحب.
وهذا الأخير، وأقصد الحب عند هذه الأقلية، علمت وتعلمت أنه فى هذه السن يكون أنقى جوهرا وأطيب حسا وأصدق عاطفة من حب كل المراحل الأخرى من عمر الإنسان. بعض أدلتى على ما فات من سطور هى:
كنا فى زمن جدتى الحاجة جمال أحفادا معدودين وحفيدات عديدات. كنا نتسابق على حجرها كلما سمحت بذلك أو دعتنا إليه. أتذكر جيدا أننى كنت أرتاح إليه أكثر من ارتياحى بوجودى لساعات داخل صندوق المشربية الذى كانوا يحشروننا فى داخله تخلصا من شكاوينا وطلباتنا التى لا تنتهى. كبرنا بسرعة ومبكرا ولكنها بقيت دائما مرحبة بنا سواء فوق حجرها أو فى حضنها. نضجنا فراحت تغدق علينا بنصائح لا تصلح إلا لشباب جاهز للزواج. أتذكر دعاءها المتكرر «روح ربنا يرزقك بالزوجة الصالحة والذرية المطيعة». عشت أتذكره دائما فى وجودنا مجتمعين، زوجتى وسامر ونسرين وداليا، على مائدة الغداء وفى حفلات أعياد الميلاد والمناسبات العائلية الأخرى.
أتذكر أننى عدت لزيارة جدتى بعد أسبوع من زواجى وكانت قد انتقلت من بيتها الكبير لتقيم مع إحدى حفيداتها فى شقة صغيرة نسبيا. وجدتها فى نفس وضعها على سريرها العريض وقد احتلت أكثر من ثلثيه. سمعتنى ونظرت نحونا بعينين متثاقلتين وقالت بصوت خافت «أنا شايفاها جنبك وقلبى حاسس إن ربنا استجاب لدعائى».
• • •
كتبت مرات عديدة عن لقائى الأول بالشاعر عمر أبو ريشة. كنت أحد مدعويه من الدبلوماسيين العرب على مائدة غداء. رحب بى الترحيب الذى يناسب وافدا جديدا على الجماعة الدبلوماسية العربية فى نيودلهى، وباعتبارى، وهو ما أطلقت عليه فيما بعد، «مدعو أو ضيف الضرورة»، وترجمتها الشخص اللازم وجوده ليكتمل العدد المقرر للمائدة. كثيرا أتذكر أبو ريشة شامخا وهو يردد قصائده فى النسر، هذا الطائر المختال بقوته وجماله وكبريائه وعشقه للقمم. أتذكره وهو مسن. أتذكره فى هذه السن شامخا كعهدى به فى منتصف عمره. خاف أن يسن قبل أوانه فينحنى ظهره وهو الظهر الذى لم ينحن مرة واحدة لملك أو أمير أو زعيم، ولا حتى للزمن. خاف أن يسن ذات يوم فلا يقوى على الصعود إلى مكانه عند القمة وتكون نهايته عند السفوح كنهاية الطيور العادية.
• • •
عملت مع «الجورنالجى» هيكل أو كنت قريبا منه خلال معظم سنوات منتصف عمره وبعض سنوات العمر المتقدم. مسن آخر فى حياتى لم ينحن لأحد ولا للزمن. كان حريصا ليبدو أمام الناس وبخاصة السياسيين فى صحة جيدة. اضطرته الظروف الصحية خلال الفترة الأخيرة من عمره أن يستعين بـ«مشاية». غالبا ما كان يتركها خارج غرفة الضيافة ليدخل للضيوف صحيحا قويا لا يعتمد إلا على إرادة صلبة لم يجربها إلا من عمل معه ومن اقترب منه.
كنت شاهدا على هذه الإرادة ومجربا لها. جربتها عند تأسيس مجلة الكتب: وجهات نظر وتأسيس الشروق ولكنها كانت قبل ذلك فى قمة أدائها عند كل زيارة من زياراتنا المشتركة لعديد الرؤساء والملوك العرب. رأيته، وهو خارج أى منصب، يجادل ويصحح تاريخ دول وسير حياة زعماء ويتحدى تفاصيل المضيف بتفاصيل من ذاكرته ومما تلقنه من الكتب والأوراق وبخاصة الوثائق الرسمية، ورأيته مسنا لم يثرثر أمامى أو يخطئ فى تحديد موقع أو موعد. عاش، كعادته، وكلما التقينا يتحدى ذاكرتى ويمتحن ذاكرته فيسألنى عن تفاصيل الأثاث فى الغرفة التى استقبلنا فيها الرئيس صدام حسين أو غرفة الرئيس بورقيبة وتفاصيل ما دار من أحاديث لم ولن تنشر مع الملك الحسن وزعماء فى الخليج والعقيد القذافى.
• • •
عملت أيضا مع محمود رياض الأمين العام للجامعة العربية ثم تقابلنا كثيرا عندما قرر الإقدام، وهو مسن، على كتابة مذكراته. عرفت فيه البساطة والواقعية السياسية فى أحلى صورها. واشتغلت مع الأخضر إبراهيمى والوزير السابق نبيل فهمى فى إعداد تقرير عن إصلاح الميثاق والأمانة العامة للجامعة. لم يكن الأخضر ليروق لتيارات عربية معينة لا لسبب إلا أنه مباشر وعادل وشجاع. على كل حال أثبت بكفاءته فى عديد المواقع أنه يستحق اختيار كوفى عنان له ضمن مجموعته الصغيرة والمفضلة، جدير بالذكر أن كان فى عضويتها الاقتصادى المعروف والمسن جيفرى ساكس صاحب الرأى السديد فى قضيتى أوكرانيا وفلسطين وفى الخطر الذى تمثله إسرائيل الراهنة وفى مستقبل يأتى إلينا مترنحا.
• • •
مسن أنا ومسنون بطبيعة الحال كل أعضاء دفعتى فى وزارة الخارجية. أخرجت هذه الدفعة وزيرين للخارجية وسفراء متميزين وممتازين وخبراء فى الأمم المتحدة ومؤسساتها وفى إدارة منظمات العمل المدنى وبخاصة العاملة فى مجال الحقوق. نحن فى عرف النظام الاجتماعى فئة متقاعدة. ولكن فى حكم الواقع وبحكم التجارب والخبرات الكثيرة التى اكتسبها أعضاء هذه الدفعة من الدبلوماسيين، وقد عرفها دبلوماسى عتيق بدفعة تأميم القناة، رفض بعضهم الاستسلام لقواعد الشيخوخة وراحوا يجربون حظوظهم فى مهن جديدة. ما كانوا ليقدموا على هذا التصرف لو لم تعدهم الدبلوماسية لهذه المهن.
• • •
أكثر المسنين فى كل المهن، وبخاصة الدبلوماسية، ثروة مصرية جاهزة بالخبرة والوطنية والاستعداد ليغرف منها ويستعين صانع القرار فى ظرف لعله بين الأصعب والأدق فى تاريخ مصر الحديث.