الثورات تتعب
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 9 أكتوبر 2014 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
الثورات كالمعادن تتعب. والثورات الدائمة أو الممتدة باهظة التكلفة، درسان من دروس التاريخ تأتى التطورات فى هونج كونج لتؤكدهما أو على الأقل لتذكر بهما.
ومع ذلك فقد لا يكون دقيقا تماما وصف حالة هونج كونج خلال الأسبوعين الماضيين بالحالة الثورية. وإن كانت بعض التفاصيل لا تختلف كثيرا عن تفاصيل تطورات مماثلة وقعت فى دول شرق أوروبا والربيع العربى، واستحقت عند ذاك صفة الثورة. المؤكد أن تصرفات «الثوار» ومتوسط أعمارهم لم يختلف فى معظم الحالات. يبدأون متمسكين بقواعد التظاهر السلمى، ويلجأون لابتكارات وإبداعات تلفت اهتمام كاميرات التصوير وتصنع مادة خصبة لوسائط التواصل الاجتماعى والإعلام العالمى. أغلبيتهم العظمى فى سن الشباب وكثيرون منهم من طلبة الجامعات والخريجين الجدد. مطالبهم حقيقية ومشروعة وصادقة. يحلمون بالتغيير ويجددون بمظاهراتهم وشعاراتهم دماء الوطنية والأمل فى مستقبل أفضل، ويصدرون بصمودهم وحماستهم حكما قاطعا على فساد طبقة سياسية وبيروقراطية حاكمة.
•••
على الناحية الأخرى، تقف السلطة، كما وقفت فى كثير من المواقع آخرها فى هونج كونج مسلحة باتهامات وآليات معروفة. فالثوار مدفوعون من الخارج ويتحركون وفق خطة مدروسة. تتفادى السلطة المواجهة لمرحلة معينة، هى المرحلة الكافية لإثارة الشكوك فى نوايا الثوار وشق صفوفهم، تأتى بعدها محاولات استفزازهم وتسريب عناصر تخريب مدربة. تعتمد السلطة فى خططها على عوامل متكررة فى معظم الحالات، وهى ضعف قوة احتمال الثوار لتقلبات المناخ والجوع والعطش والابتعاد عن أهاليهم ومساكنهم من ناحية ونفاد صبر المواطنين غير المشاركين، حتى وإن كانوا من المتعاطفين، ورغبة متصاعدة لدى الأكثرية العظمى فى عودة الحياة الطبيعية ووقف الفوضى التى تسببت فيها الاعتصامات والمظاهرات وتلك التى اصطنعتها السلطة، وفى الغالب ينتصر بشكل مطلق أو مؤقت الطرف صاحب النفس الأطول.
•••
فى هونج كونج، كما فى غيرها، اعتمد الثوار على التغطية الإعلامية الدولية وعلى الدعم السياسى من جانب الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. ولكن على خلاف ما حدث فى دول الربيع العربى وفى شرق أوروبا وأوكرانيا مؤخرا، شعر ثوار هونج كونج منذ البداية بضعف اهتمام الإعلام الغربى بثورتهم مقارنا بالاهتمام المبالغ فيه والدعم اللانهائى من جانب الغرب لثوار الربيع وأوروبا الشرقية.
لفت نظرى بالفعل هذا التردد من جانب الغرب تجاه تطورات «الثورة» فى هونج كونج، وربما استطعت فهم العقل السياسى الغربى الذى دأب فى السنوات الأخيرة على الإسراع بإعلان دعم أى انتفاضة شعبية فى أى بلد من بلدان العالم الثالث.
هذه المرة، فيما أتصور، كان واضحا لى شخصيا أننا أمام وضع مختلف :
أولا: نحن أمام انتفاضة شباب فى مدينة واحدة فى دولة «ناجحة» بحكم كل مقاييس القوة الاقتصادية والدولية. بينما فى التجارب الأخرى، وبخاصة تجربة الربيع العربى، نشبت الانتفاضات فى عواصم ومدن كبرى عديدة فى دول «غير ناجحة» حسب المعايير نفسها.
ثانيا: فيما يتعلق بحالة هونج كونج تحديدا، يصعب اتهام السلطة فى بكين بأنها أخلت بتعهداتها لشعب المدينة. لقد أوفت حكومة بكين بكافة التزاماتها التى تعهدت بها خلال مفاوضاتها واتفاقاتها مع الحكومة البريطانية. تعهدت فأوفت باحترام الوضع السياسى الداخلى فى هونج كونج طبقا لمبدأ دولة واحدة بنظامين.
لا يستطيع مواطن عاش سبعة عشر عاما تحت السيادة الصينية الادعاء بأنه لم يتمتع بحياة كريمة فى ظل احترام القانون، واستقلال القضاء وحرية التعبير وحريات أخرى نص عليها القانون الأساسى الذى مهد لاستقلال هونج كونج.
ثالثا: هى انتفاضة ربما استباقية، بمعنى أن الشباب فى هونج كونج انتابهم القلق من احتمالات المستقبل وبالذات حين تنتهى فترة الخمسين عاما التى نص عليها الاتفاق. يخشون أن النص الوارد فى الاتفاق على أن تشكل الحكومة المركزية فى بكين لجنة تختار المرشحين للانتخابات المقررة فى 2017 لشغل منصب محافظ هونج كونج، قد يعنى بداية تدخل مباشر من حكومة بكين فى شئون الجزيرة. فى هذه الحالة يكون الثوار هم الخارجون على الاتفاقية وليس حكومة الصين، التى مازالت فى نظر العالم الخارجى تنفذ بأمانة نصوص الاتفاق.
رابعا: نشهد نحن دارسو تاريخ الصين الحديثة على أن أهل هونج كونج لم يمارسوا الديمقراطية على امتداد أكثر من 150 عاما هى عمر الاستعمار البريطانى للجزيرة. كان حكما استعماريا بمعنى الكلمة كالحكم الذى عاشت فى ظله وثارت ضده معظم مستعمرات بريطانيا. وإن جرى تجميله فى هونج خاصة بمبادئ وأفكار ليبرالية باعتبارها صالة عرض للرأسمالية الغربية على أبواب أكبر حالة شيوعية فى العالم. وبالفعل استطاع الإنجليز خلال فترة الاستعمار فرض اللغة الانجليزية كلغة التجارة والمال والبيروقراطية المهيمنة. هكذا غرس بذور ثقافة مضادة لثقافة الأغلبية العظمى من الصينيين. ورغم ذلك نجح الحزب الشيوعى فى الصين فى اختراق الجزيرة خلال حكم الرئيس ماو تسى تونج محاولا بنجاح المحافظة على الروابط الأخلاقية التاريخية، ومن بعده اعتمدت حكومة الرئيس دينج شياوبنج الإصلاحية على هونج كونج كنافذة على عالم التجارة العالمية، فازدهرت هونج كونج وتعمقت المصالح المشتركة بين أكبر العائلات فى الجزيرة ومواقع السلطة فى الصين. معظم هذه العائلات تقف الآن ضد انتفاضة الشباب فى هونج كونج.
خامسا: عاش أغلب سكان الجزيرة فترة الاستقلال مستفيدين من وضعهم المتميز أصلا فى التعليم والتجارة والدخل بالنسبة للفرد والخبرة المالية والبحرية، ومطمئنين إلى اعتماد الحكومة الصينية على الجزيرة باعتبارها الميناء الأحدث والمركز المالى الأهم فى شرق آسيا، إلى أن اكتشفوا أنه فى خلال السبعة عشر عاما تقدمت شنغهاى ومدن أخرى على الساحل الشرقى للصين تجاريا وصناعيا وتكنولوجيا إلى حد صارت هى المراكز الأقوى ماليا وتجاريا وثقافيا. بمعنى آخر دخلت هونج كونج مرحلة الأفول.
سادسا: لا يوجد فى الغرب سياسى عاقل يتمنى أن تشهد الصين «ثورة ربيع» أو ما شابه. قد لا يوافقون فى واشنطن ولندن على نظام الحكم فى الصين. ينتقدون القيود على الحريات، والنقص فى استقلال القضاء والمبالغة فى سطوة الحزب الواحد، ولكنهم لن يغامروا بمستقبل الاقتصاد العالمى، إذا وقع فى الصين ما يشل الحركة ودخلت حكومات الغرب فى حملة لدعم اضطرابات أو انتفاضات أو ثورات تهدد الاستقرار فى الصين.
بل قد أذهب بعيدا وأعترف باعتقادى أن المعاملة الناعمة التى يلقاها قادة الانقلاب العسكرى فى تايلاند، والنظام الحاكم فى فيتنام، والتفاهمات الجارية مع حكام ميانمار العسكريين، كلها إشارات تعكس رغبة غربية، وربما أمريكية خالصة، لتفادى إيجاد أوضاع تهدد الاستقرار والأمن فى الدول المتاخمة للصين. بمعنى آخر، يسعى الغرب، وأمريكا خاصة، إلى المحافظة على الوضع القائم فى منطقتى جنوب شرقى آسيا وشرق آسيا إلى حين تسمح الظروف فى أوروبا والشرق الأوسط بأن تستأنف واشنطن مشروع نقل بؤرة تركيزها فى السياسة العالمية إلى هناك.
لا أعتقد أن أحدا فى القيادة الأمريكية فى واشنطن يتمنى أن يرى انفجارات شعبية فى مناطق الهوامش الصينية الساخنة، أى فى التبت وسينكيانج وهونج كونج وتايوان. إن العائد المعنوى للديمقراطية كما يفهمها الغرب ويروج لها نتيجة «ثورات» تنشب فى هذه المناطق لا يساوى بأى حال العائد المخيف على الأمن والسلام فى شتى أنحاء آسيا وبشكل خاص فى شبه جزيرة الهند ونيبال وأفغانستان وجمهوريات وسط آسيا.
•••
لا يعنى التعامل الناعم مع انتفاضات أو «ثورات» جديدة فى آسيا وغيرها، عزوف أمريكا ودول أخرى فى الغرب عن دعم الحركات المطالبة بالتغيير، ومع ذلك يجدر بنا الانتباه إلى عناصر عديدة فى العلاقات الدولية والإقليمية يسهم تضافرها فى وقف أو تغيير مسار المد الثورى. هى فترة مهمة لضخ دماء جديدة فى شرايين الثوار وتصفية مخزون الصبر لدى الأغلبيات الصامتة وسقوط عدد أكبر من رموز النفاق وإعادة تدوير مناصب الحكم.