كتبت فى بداية الشهر الماضى مقالا بعنوان «موسم الحج واقتصاديات الدين» حاولت من خلاله الاقتراب من العائد الاقتصادى لشعيرة الحج عند المسلمين، فضلا عن مفاهيم تربط مباشرة بين الدين والتنمية. فى المقال المشار إليه أيضا اقترحت صيغة عادلة لاقتسام عائدات الحج بين الدول كثيفة التصدير للحجيج، وبين الدولة الوحيدة المستقبلة لحج عرفة. كذلك ألمحت فى مقالات سابقة عن ضرورة الاستغلال الأمثل للمزايا النسبية للبقاع السياحية فى مصر، خاصة ما يتعلق منها بالسياحة الدينية كالمزارات والعتبات والأضرحة لأهل البيت والصحابة، والبقعة المباركة الوحيدة فى العالم التى كلم الله فيها موسى تكليما، ورحلة خروج اليهود هروبا من فرعون، ورحلة العائلة المقدسة إلى مصر، والأديرة العتيقة فيها. اليوم أستلهم بعضا مما كتبت ونحن نستقبل هدية جديدة من بابا الفاتيكان الذى شرفنا بزيارته لمصر فى أبريل الماضى، وها هو يبارك بالأمس القريب أيقونة لرحلة العائلة المقدسة إلى مصر، داعيا لها بالبركة والنجاة من شر الإرهاب، ومعتمدا لرحلة حج مسيحية تتخذ من مسار الهجرة المباركة للسيد المسيح وأمه والقديس يوسف شعيرة حج ومقصدا للمسيحيين.
وقد ظهرت كلمة «قبط» أو «قفط» لأول مرة فى مؤلفات الرحالة الغربيين الذين زاروا مصر فى أواخر القرون الوسطى، وهى مأخوذة عن العربية «قبط» وهى تعنى سكان مصر المسيحيين الأصليين، بينما يدعى أبناء الطوائف المسيحية الأخرى فى الشرق كالموارنة والأرمن والروم الكاثوليك وغيرهم «النصارى» نسبة إلى مدينة الناصرة.
ويعتقد المسيحيون عامة أن لمصر موقعا خاصا من المشيئة الإلهية حسبما وصفها الكتاب المقدس. فإبراهيم أبو المؤمنين، عاش زمنا على ضفاف النيل، كما أن يوسف أصبح وزيرا لدى ملك مصر، أما موسى ــ عليهم جميعا السلام ــ فقد حصل فى مصر علما وحكما وحكمة. كذلك فإن النبى «حزقيال» وعد بأن «الرب سيعرف المصريين بنفسه، ويومها سيعرف المصريون ربهم»، وبالتأكيد ربط المسيحيون الأوائل بين تلك النبوءة وبين الروايات الإنجيلية عن فرار العائلة المقدسة إلى مصر، ويقال إن السنوات الثلاث والنصف التى أمضاها الطفل يسوع فى مصر كانت مناسبة له ليغزو العديد من القلوب. كثيرة هى المواقع المصرية (مثل «البيلوزيوم» و«دير المحرق» البعيدة 340 كم إلى الجنوب من القاهرة) التى تحتفل بذكرى مرور العائلة المقدسة بها. وقد نظمت الحكومة المصرية فى ذكرى الألفية الثانية، وبالتنسيق مع الكنيسة برنامج حج أطلقت عليه: «على خطى العائلة المقدسة»، وبعد مرور أعوام على إطلاق هذا البرنامج مازال تسويقه ضعيفا.
***
إن الروايات المسيحية الأولى تُجمع على أن المبشر القديس «مرقس» هو الذى كون أول نواة مسيحية فى الإسكندرية بين عامى 62 و 68م، وهنا يجب التذكير بأن أقدم المخطوطات الإنجيلية المحفوظة (جزء من الفصل 18 من إنجيل يوحنا) كان مصدرها الأكثر احتمالا هو الفيوم (فى مصر الوسطى) وترجع فى الغالب إلى عام 135 من الميلاد. وقد تجلت أهمية الكنيسة المصرية بكونها فرضت على العالم المسيحى مبادئ حساب تاريخ عيد الفصح. كذلك فإن حيوية المسيحية المصرية هى التى تفسر ضراوة الاضطهاد الذى تعرضت له على أيادى الأباطرة الرومان أمثال «سبتميوس سيفيروس» عام 202 و«ديكيوس» عام 250 و«فالريان» عام 257 وبالأخص «دقلديانوس» بين عامى 303 و304 الذى كان عنيفا لدرجة جعلت المسيحيين المصريين فيما بعد يختارون يوم وصول هذا الطاغية إلى سدة الحكم عام 284 منطلقا لتأريخهم لـ«عهد الشهداء».
ظهرت القداسات وممارساتها وفنون الأيقونات iconography والألحان الكنسية الموروثة من الموسيقى المصرية الخالصة فى أماكن بعيدة عن اضطهاد الطغاة. وفى القرن الثامن الميلادى انطلقت بدعة مصدرها البطريرك الملكانى فى القسطنطينية تدعو إلى محاربة الأيقونات وتحطيمها والتخلص منها!. وقد عانت الكنيسة القبطية الوطنية جراء تبعيتها للكنيسة الشرقية الملكانية الكثير، وراح ضحية ذلك الكثير من الأعمال الفنية الرائعة، وكان هذا عصر تدهور للحركة الفنية فى مصر وأمم البحر المتوسط عامة. ومنذ هذا العصر وحتى القرن السابع عشر خلت الكنائس فى مصر من الأعمال الفنية المدروسة والتى كان لها مدارس فنية معروفة باسم القباطى نسبة إلى القبطية.
***
بالتأكيد تظل هذه اللمحات الروحية والتاريخية والفنية المهمة غائبة عن مقررات المدارس، ومبادرات التوعية بتاريخ البلاد!، ولكن تحفظها للتاريخ أعمال فنية ومخطوطات ومجموعات أثرية تضمها المتاحف والكنائس والأديرة. يعود الاهتمام بالآثار القبطية فى العصر الحديث إلى العام 1881، عندما عين «جاستون ماسبيرو» مديرا لمديرية الآثار المصرية القديمة فى متحفى القاهرة وبولاق خلفا لمؤسسها «أوجست مارييت». وخلال بضع سنوات استطاع «ماسبيرو» مضاعفة عدد التحف القبطية المستخرجة من الحفريات الأثرية، وسرعان ما ضاق المكان بالمجموعات القبطية فنقلت إلى الجيزة أولا عام 1890 ثم إلى المبنى الذى شيد خصيصا لهذا الغرض فى قصر النيل (متحف الآثار الكبير الكائن حتى اليوم فى قلب القاهرة). وفى عام 1908 أنشأ «مرقس سميكة» باشا المتحف القبطى فى مبنى فاخر داخل حصن بابليون فى القاهرة القديمة ثم تقرر نقل المجموعة القبطية الموجودة فى المتحف الوطنى إلى المتحف القبطى الجديد مع توسيع ذلك المتحف فى عام 1939.
ومن الآثار القبطية الشهيرة ذات الأهمية الفنية والسياحية أيضا، خريطة رسمت بالقاهرة بناء على رغبة الراهب «كلود سيكار» عام 1717 على ورق مغطى بالقماش (توجد منذ يونيو 1927 فى باريس بالمكتبة الوطنية الفرنسية) لتصوير الرحلة التى قام بها هو وبعثته اليسوعية فى شهرى مايو ويونيو من عام 1716 إلى ديرى القديسين «أنطونيوس» و«بولا» قرب البحر الأحمر، وتجسد الخريطة مشاهد من رحلة البعثة، والدرب الذى سلكه اليهود للهروب من فرعون.
ووفقا للعديد من الإحصاءات الخاصة بالحجيج المسيحيين حول العالم، تقع كثير من مقاصد الحج المسيحى فى أماكن لا تتصل تاريخيا ولا جغرافيا بسيرة العائلة المقدسة والرسل والقديسين! وعادة ما يكتسب الموقع قداسته من رؤية مباركة أو علامة روحية أو تجل مشهود يتبعه اعتقاد بقدرة المكان على الشفاء. فى العالم الجديد تظل «نيومكسيكو» مثلا مقصدا لآلاف الحجاج سنويا، كذلك الحال فى كنائس ومزارات بمدينتى «نيويورك»، و«كنتاكى» بالولايات المتحدة، و«لونا» فى اسكتلاندا و«زاراجوزا» فى إسبانيا، وبالطبع روما حيث الفاتيكان. وسواء كان الحج المذكور مصدره سياحة داخلية أو خارجية، فإن عناصر الجذب والتسويق السياحى المختلفة بتلك المزارات كان لها أكبر الأثر فى تنميتها بعيدا عن أية مباركة كنسية رسمية!
وفى عام 2011 أحصى «تحالف الأديان والحوار» (تأسس عام 1995) ما يقرب من 155 مليون حاج من مختلف المعتقدات لمقاصد حج حول العالم. حظيت الهند بالعدد الأكبر من الحجيج الهندوس والسيخ (شعيرة واحدة فقط كان عدد حجاجها 30 مليونا من الهندوس)، وكانت «كربلاء» بالعراق الأكثر استقبالا للحجيج المسلمين (عشرة ملايين حاج). أما مقاصد الحج المسيحى فقد تقدمتها «مكسيكو سيتى» عاصمة المكسيك (استقبلت نحو 20 مليونا) و«لورد» فى فرنسا (استقبلت نحو 8 ملايين)، والبرتغال زارها من 4 إلى 5 ملايين حاج.. ويظل جبل موسى أو جبل طور سيناء، ودير سانت كاترين فى مصر من أهم مقاصد الحج المسيحى فى العالم، لكن العدد الذى تستقبله لم يرد فى الإحصاء المذكور والذى توقف عند رقم 2500 حاج. وربما كان ذلك منطقيا فى عام الثورة نظرا للاضطرابات السياسية التى انعكست على الوضع السياحى، لكن يظل عدد الحجاج المسيحيين الواردين إلى مصر من القدس فى أعقاب احتفالهم بأسبوع الآلام يقدر سنويا بالمئات فقط، ويختلط هدف السياحة الدينية بالسياحة الثقافية والترفيهية فى جنوب سيناء، فيصعب تقدير الحجيج على وجه الدقة.
***
السياحة الدينية تحتاج إلى هيئة متخصصة لتنشيطها وتنميتها، ومن مزاياها القدرة على استثمار الجانب الروحى للاستغناء عن مظاهر الرفاهية المطلوبة للإقامة والانتقال، واستبدالها بجو عام تاريخى بدائى يبطل حجة القائلين بتراجع أعداد السائحين لقلة الغرف الفندقية. إن أحسنا استغلال المصالحة الفلسطينية الأخيرة يمكن سرعة إحلال الاستقرار فى منطقة شمال سيناء، وتدشين برنامج حج «إبراهيمى» متكامل (الحج بمفهومه الواسع المجرد الذى يعنى الزيارة والتبرك ولا يتعارض مع فرائض وشعائر الأديان) يبدأ من العريش شمال شرق البلاد، ويمر عبر مختلف البقاع المقدسة والطاهرة للأنبياء والرسل والقديسين وآل البيت والصحابة، برنامج حج مصرى قبطى يتشعب ليسمح لمعتنقى كل ديانة أن يكتفوا بالمسارات المهمة لمعتقدهم، أو يكملوا فى الرحلة عبر مختلف البقاع المتصلة بالرسالات السماوية الإبراهيمية. تأمين هذا البرنامج وتوفير عناصر الراحة والسلامة للحجيج هو أساس نجاحه.