التاريخ السياسى لإسرائيل.. بناء مؤسسات الدولة
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 9 نوفمبر 2024 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
أعود فى مقال هذا الأسبوع إلى سلسلة «التاريخ السياسى لإسرائيل» بعد أن توقفت لشهرين تقريبا من أجل الكتابة عن تحليلات العام الأول بعد هجمات السابع من أكتوبر. كنت قد توقفت من المقال الأخير لهذه السلسلة عند موقف جامعة الدول العربية من إنشاء الدولة العبرية، والحرب العربية الإسرائيلية الأولى والتى انتهت بانتصار الجيوش اليهودية على نظيرتها العربية، وهو المقال المنشور فى الرابع عشر من سبتمبر.
• • •
رغم استمرار المعارك العربية ــ الإسرائيلية، فقد أخذ قادة إسرائيل فى تثبيت قواعد الدولة الجديدة على الأرض عن طريق إنشاء مؤسسات جديدة منتخبة للدولة مع وضع قواعد المواطنة التى تحدد شروط وحدود الحصول على الجنسية الإسرائيلية! ونحو هذا الهدف، قرر المجلس المؤقت للدولة والذى كان يمثل السلطة التنفيذية بتحديد يوم الثامن من نوفمبر لعام ١٩٤٨ من أجل تنفيذ أول تعداد للسكان فى إسرائيل، وبالطبع لم يكن هذا مجرد إجراء اعتيادى، بل كان بمثابة اللبنة الأولى التى أرست قواعد المواطنة، وكانت واحدة من أهم هذه القواعد هو استبعاد أكبر قدر ممكن من السكان العرب ليس فقط من التمثيل السياسى، بل ومن الحصول على جنسية الدولة، بالإضافة إلى محاولة تأسيس حجج قانونية من أجل استبعاد اللاجئين الفلسطينيين للأبد ومنعهم من حق العودة!
فى ورقتهما القيمة المنشورة عام ٢٠٠٦ فى دورية الدراسات العرقية والعنصرية التى تصدر عن دار نشر روتليدج بعنوان «المواطنة والإقصاء فى تعداد إسرائيل لعام ١٩٤٨»، قام الباحثان الإسرائيليان ــ أنات ليبريل ودانيل بيرسلاو ــ بتحليل الأساليب والأدوات التى استخدمت فى هذا التعداد من أجل استبعاد السكان العرب من المواطنة وحقوق الملكية فى إسرائيل.
كانت أولى هذه الأدوات هى عقد التعداد تحت إجراءات حظر التجوال، حيث تم فرض إجراءات الحظر وإيقاف كل وسائل المواصلات العامة عن العمل فى ٨ نوفمبر عام ١٩٤٨ من الساعة الخامسة مساء وحتى منتصف الليل، ورغم أن السلطات الإسرائيلية بررت ذلك الإجراء بأنه ضرورى لضمان عد كل السكان، لكن الباحثين أوضحا فى ورقتهما أن ذلك كان بهدف استبعاد السكان العرب، حيث اعتبرت إدارة إحصاء السكان أن أى شخص غير متواجد فى منزله أو غير متعاون مع السلطات (عن طريق مثلا عدم فتح باب المنزل أو عدم الإجابة على الأسئلة) سيتم استبعاده من اعتباره مواطنا للدولة، كما سيفقد حقوقه فى الملكية بالتبعية!
ولأن هذا الإجراء تم فى عجالة وفى أثناء الحرب مع الجيوش العربية، فقد هجر مئات الآلاف من العرب بالفعل قراهم ومنازلهم نحو سوريا ولبنان وقت التعداد، أو حتى قاموا بتغيير أماكن تواجدهم داخل ما تم اعتباره أراضى الدولة الإسرائيلية ومن ثم تم استبعاد كل هؤلاء ليس فقط من حقوق المواطنة، ولكن أيضا من حقوق الملكية ومن حقوقهم فى العودة إلى منازلهم وأراضيهم داخل إسرائيل! ورغم أن بعض اليهود لم يتعاونوا أيضا مع إدارة التعداد سواء بإعطاء معلومات مغلوطة أو بعدم الإجابة على بعض الأسئلة أو حتى بالتظاهر بعدم التواجد فى المنزل، فإن هؤلاء لم يتم استبعادهم من حقوق المواطنة لاحقا!
ورغم أن بعض اللاجئين العرب فى الداخل (داخل أراضى إسرائيل بموجب قرار تقسيم الأمم المتحدة) قد حصلوا على حقوق المواطنة فى التسجيل الجديد للسكان الذى جرى فى عام ١٩٥٠، إلا أنهم تعرضوا للحرمان من حقوق الملكية ومن ثم فقد خسروا منازلهم ومنازل أجدادهم وكذلك أراضيهم الزراعية!
• • •
كان هذا التعداد العنصرى بامتياز هو الأساس الذى جرت عليه أول انتخابات فى تاريخ الدول العبرية، وهى انتخابات الكنيست الذى كان يعرف وقتها بـ«المجلس التأسيسى»، فبناء على هذا التعداد تم تحديد قاعدة الناخبين ممن يمتلكون حق التصويت بما يزيد قليلا عن ٥٠٠ ألف مواطن ومواطنة، كان معظمهم من اليهود مع أقلية مهمشة من العرب.
جرت هذه الانتخابات فى ٢٥ يناير عام ١٩٤٩ وفقا لنظام التمثيل النسبى القائم على نظام القوائم النسبية المغلقة حيث تحصل كل قائمة تمثل حزبا أو ائتلافا على عدد مقاعد مساوٍ تقريبا للنسبة المئوية التى حصدتها فى مرحلة التصويت، وكان هذا النظام هو القائم فى الدولة العبرية بالفعل قبل ١٩٤٨ حيث جرت أول انتخابات لجمعية النواب عام ١٩٢٠ تحت سلطة الانتداب البريطانى وكانت هذه الجمعية هى بمثابة المجلس التشريعى المؤقت لليهود فى الأراضى الفلسطينية حتى يناير ١٩٤٩.
فى هذه الانتخابات لأول برلمان منتخب فى الدولة الوليدة تنافس ٢١ قائمة حزبية وائتلافا مثلوا كل تيارات الطيف السياسى من اليمين إلى اليسار على ١٢٠ مقعدا، وكان من ضمن هذه القوائم المتنافسة ثلاث قوائم عربية فقط، وهى «قائمة الناصرة العربية» برئاسة السياسى سيف الدين الزعبى وهو أحد الموالين للدولة اليهودية حتى من قبل إنشائها حيث كان ناشطا فى استخبارات كتائب الهاجاناه الإرهابية قبل ١٩٤٨، و«قائمة الكتلة العربية الشعبية» برئاسة جورج ناصر وهى قائمة تابعة لحزب العمال المتحد «مبام» وهو حزب يهودى عمالى لم يرد أن يخوض العرب الانتخابات على قائمته، فقام بتأسيس هذه القائمة قبل الانتخابات بثلاثة أسابيع فقط لتكون قاصرة على العرب، وأخيرا قائمة «كتلة العمال» برئاسة عبدالرحمن الحسينى.
فاز حزب ماباى العمالى (تحول اسمه لاحقا إلى حزب العمال المعروف) برئاسة ديفيد بن جوريون بأكثرية المقاعد حيث سيطر على ٤٦ مقعدا فى المركز الأول بعد أن حصل على نحو ٣٦٪ من الأصوات، تلاه حزب مبام العمالى بـ١٩ مقعدا بعد أن حصل على ما يقرب من ١٥٪ من الأصوات، ثم جاء تحالف الأحزاب الدينية الذى عرف باسم الجبهة الدينية المتحدة فى المركز الثالث بـ١٦ مقعدا بعد أن حصد نحو أكثر قليلا من ١٢٪ من الأصوات، ثم حزب حيروت اليمينى (اندمج فى عام ١٩٨٨ مع حزب الليكود) فى المركز الرابع بـ١٤ مقعدا بعد أن حصد ١١٫٥٪ من الأصوات. فيما توزعت باقى المقاعد على ثمانية أحزاب وتحالفات أخرى، ولم ينجح من الائتلافات العربية سوى قائمة الناصرة بعد أن حصلت على مقعدين فقط، حيث كان سيف الدين الزعبى وأمين سليم جرجورة هما أول عربيين يحصلان على مقاعد فى الكنيست!
• • •
قام الكنيست بأول أعماله من خلال اختيار حاييم وايزمان كأول رئيس للدولة، وهو بالطبع لم يكن سوى منصب شرفى فى ظل النظام البرلمانى المعتمد الذى يعطى كل الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء.
فى مارس من عام ١٩٤٩ قام الكنيست باعتماد أول حكومة فى إسرائيل ترأسها بن جوريون بعد أن اتحد حزبه (ماباى) مع كل من الجبهة الدينية المتحدة والحزب التقدمى وحزب المجتمعات السفردية والشرقية بالإضافة إلى قائمة الناصرة ليشكلوا معا أول ائتلاف حكومى واسع فى تاريخ الدولة العبرية.
تكونت هذه الحكومة من ١٢ مقعدا حيث تولى بن جوريون رئاسة الوزراء بالإضافة إلى وزارة الدفاع، فيما تم اختيار موشيه شاريت لوزارة الخارجية (سيصبح لاحقا ثانى وزراء إسرائيل)، بينما تولت جولدا مائير وزارة العمال والتأمينات الاجتماعية (ستصبح لاحقا رابع رئيسة للوزراء)، وفى حين تم تمثيل الأحزاب الأربعة المؤتلفة فى هذه الحكومة، لم تحصل قائمة الناصرة على أى منصب وزارى رغم أنها كانت جزءا من هذا الائتلاف!
كذلك فقد كان من تشريعات الكنيست هو قانون التعليم الإجبارى وكذلك قانون حق العودة الذى أعطى الحق لأى شخص لديه جد/ جدة أو أكثر من أصول يهودية فى الهجرة إلى إسرائيل مع أسرهم والحصول على الجنسية!
تم إعادة تشكيل الحكومة بنفس الائتلافات السابقة وبرئاسة بن جوريون أيضا، ولكن بعد إدخال بعض التعديلات الطفيفة مثل إنشاء وزارة جديدة للتجارة والصناعة بعد أن تم فصلها عن وزارة المالية وذلك فى نوفمبر من عام ١٩٥٠، لتستمر هذه الحكومة لمدة ١١ شهرا فقط حيث تم حل الكنيست فى أكتوبر من عام ١٩٥١، ومن ثم تم الدعوة إلى ثانى انتخابات برلمانية فى تاريخ البلاد وهو ما أتناوله فى مقالات قادمة.