عودة ترامب

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 9 نوفمبر 2024 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

عاد دونالد ترامب إلى صدارة المشهد السياسى الأمريكى والدولى بسهولة كانت مفاجأة لكل المراقبين. فى الأيام الأولى من شهر نوفمبر الجارى بدت المنافسة بين مرشحى الحزبين الأمريكيين محتدمة يصعب توقع مآلها، فإذا بالمرشح الجمهورى يكتسح منافسته الديمقراطية، بينما يفوز مرشحو حزبه بالأغلبية فى مجلس الشيوخ، ويقتربون من تجديد أغلبيتهم فى مجلس النواب. هكذا تنعدم آلية مركزية فى النظام السياسى الأمريكى هى الضوابط والتوازن ويصبح لرأس السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية، أن يفعل ما تهيئه له تصوراته عن طرائق عمل النظامين السياسيين الأمريكى والدولى والفاعلين فى كل منهما. نعمل هنا بالمفهوم الواسع للنظام السياسى الذى يشمل الاقتصاد فى داخله. ما سيفعله الرئيس ترامب سيهدف إلى «جعل أمريكا عظيمة من جديد»، شعاره وشعار أنصاره، حسب ما يتصوره ويتصورون عن ماهية العظمة.
فيما يلى من المقال، وبإيجاز، نستعرض بعض ما يمكن أن يفعله الرئيس ترامب وردود فعل الفاعلين الأمريكيين والدوليين عليه، فى الولايات المتحدة نفسها وفى علاقاته الأوروبية. ما كُتِبَ عما ينتظر الشرق الأوسط بعد عودة ترامب فى الأيام الأخيرة كثير، ومع ذلك نتناوله بإيجاز أيضا فى نهاية استعراضنا.
• • •
فى الولايات المتحدة نفسها، نتخذ ثلاثة أمثلة لما يمكن أن يقدم عليه الرئيس ترامب. حسب ما صدر عنه فى أثناء الحملة الانتخابية، فإن الرئيس ترامب سيعمل على أن تنصاع له ولأفكاره وتصوراته نفس أجهزة الدولة فى الولايات المتحدة، بما فى ذلك الجهاز الإدارى لها والوكالات المنضوية تحت مفهوم «الحكومة» فيها، وهى التى يعتبرها بمثابة «الدولة العميقة». الرئيس ترامب يريد إجراء اختبارات للتحقق من ولاء العاملين فى تلك الأجهزة واعتناقهم لأفكاره وتصوراته. لن يقف فى سبيله أحد على المستوى الاتحادى كله، فالكونجرس معه، والمحكمة العليا هو ملأها بقضاة من طينة قريبة من طينته فى فترة رئاسته الأولى.
نجاح الرئيس ترامب فيما يبغيه مشكوك فيه تماما مع ذلك ومن شأن مبغاه أن يجلب الفوضى فى السياسة الأمريكية. ثلاث ملحوظات واجبة فى هذا الشأن. أولا، النظام السياسى الأمريكى لا يقتصر على المستوى الاتحادى. عدد كبير من الولايات، بما فى ذلك أكبرها كاليفورنيا والرابعة حجما نيويورك، حكامها من الحزب الديمقراطى وكذلك الأغلبية فى مجالسها التشريعية. لن يستطيع الرئيس ترامب أن يجرى اختباراته على الأجهزة الإدارية وعلى النيابات العامة مثلا فى هذه الولايات. الملحوظة الثانية هى أن النظام السياسى ليس وقفا على المؤسسات الدستورية، فالفاعلون فيه عديدون من النقابات والجمعيات ومجموعات المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية ذات الثقافات السياسية المتنوعة والمحتكمة إلى موارد تجمعها من نظام اقتصادى مفتوح، موارد لا يمكن حجبها عن هؤلاء الفاعلين الذين لن يقفوا بلا ردود فعل إن تعرض استقلال إراداتهم للاعتداء. الملحوظة الثالثة والأهم، والمتصلة بسابقتها، هى أنه إن كانت للولايات المتحدة عظمة فإنها تأتى من التعددية فيها والتنوع. الحجة الأساسية التى تستند إليها الولايات المتحدة فى دعوة شعوب العالم ودوله إلى انتهاج نهجها هو أن ليبراليتها السياسية هى التى سمحت لها بتحقيق التقدم الاقتصادى وبكفالة الحريات لشعبها وبالانتصار فى حربين عالميتين، ثم فى الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتى. يخطئ دونالد ترامب فى تصوراته عن عظمة الولايات المتحدة.
المثال الثانى بشأن الولايات المتحدة هو ما زعم المرشح ترامب أنه سيكافح التضخم به ألا وهو فرض تعريفة جمركية مرتفعة على الواردات. الواردات من السلع الاستهلاكية منخفضة الأسعار تخفض التضخم ولا ترفع من معدله. مثل التعريفة المذكورة ترفع من معدل التضخم إذ إنها ترفع تكلفة الإنتاج. تغاضى المرشح ترامب وأنصاره عن أن جانبا كبيرا من الواردات من الصين، المقصودة الأساسية بهذه التعريفة، مدخلات فى عمليات الإنتاج إن ارتفعت تكاليفها ارتفعت الأسعار معها.
المثال الثالث هو من محاربة الهجرة والمهاجرين الذى أعلن المرشح ترامب أنه سيرحل الملايين منهم. كثيرة دوائر الأعمال، خاصةً الكبرى منها، المحيطة بالمرشح ترامب ولذلك فإنه يصعب تصور أن ينفذ الرئيس ترامب ما وعد به أنصاره من القوميين المتعصبين المأخوذين بشعار «جعل أمريكا عظيمة من جديد». دوائر الأعمال فى كل مكان نصيرة للهجرة من منظور اقتصادى. من نفس المنظور، ترحيل المهاجرين من شأنه أن يرفع من تكلفة العمل، وبالتالى من تكلفة الإنتاج، بما يرفع من معدل التضخم. تناقضات جلية فى خطاب المرشح ترامب.
• • •
فى العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، ننتقى المسألة الحالة والبارزة للعلاقة مع روسيا وحربها فى أوكرانيا. الحلفاء الأوروبيون يخشون من أن يعمل الرئيس ترامب على إنهاء الحرب فى أوكرانيا وإن كان بأقل من شروط الانتصار الكامل على روسيا وبثمن تدفعه أوكرانيا. يتخوف الحلفاء الأوروبيون من أن يعرضهم التساهل مع روسيا إلى أطماعها فى المستقبل. ولمواجهة هذه الأطماع فهم لا بد أن يرفعوا من مستويات إنفاقهم العسكرى للدفاع عن أمنهم فى وقت يواجه فيه أغلبهم صعوبات جمّة فى ميزانياتهم. صحيح أن روسيا انتهكت القانون الدولى بغزوها أوكرانيا، ولكن التساؤل يثور عن مسئولية الدول الأوروبية عن دفع روسيا إلى فعلتها، فهى سارت وراء الولايات المتحدة فى ضم دول وسط وشرق أوروبا إلى حلف شمال الأطلسى فى التسعينيات من القرن العشرين وفرض الحصار عليها. ومنذ اندلاع الحرب فى أوكرانيا، ألم تقتفِ الدول الأوروبية سياسة الولايات المتحدة الراغبة فى استنزاف روسيا وتعميق انتصارها عليها فى الحرب الباردة؟ على الرغم من تاريخ بعضها مع روسيا، التساؤل يثور كذلك عن التخوف الأوروبى منها. فضلاً عن اقتصادها المحدود، هل روسيا قادرة على أن تمثل تهديدًا لمجمل القارة الأوروبية، إن كانت تحتاج إلى مسيّرات تنتجها إيران وتستعين بجنود من كوريا الشمالية فى حربها فى أوكرانيا كما تردد أخيرا؟!
يبدو أن الأوروبيين يخشون من أن يضطروا إلى قبول ما تقرره الولايات المتحدة بصرف النظر عن آرائهم ومواقفهم، كما عهدوا من قبل، وإن خرج ما يقرره الرئيس ترامب هذه المرة عما ألفوه حتى الآن. يبدو الرئيس الأوكرانى مستعدًا فى الوقت الحالى لقبول تسوية ما للحرب، وهو ما ينطبق أيضًا على الرئيس الروسى، ولذلك فإن حظوظ الرئيس ترامب فى النجاح فى هذا الملف ليست هينة.
• • •
فى الشرق الأوسط، الترقب هو بشأن مواقف الرئيس ترامب من الحرب الجارية فى غزة، وكذلك فى الضفة الغربية، منذ أكتوبر من العام الماضى، وفى لبنان منذ شهر سبتمبر، ومن إطارها الأوسع وهو مستقبل القضية الفلسطينية وموقع إسرائيل فى المنطقة.
فى عرف الرئيس ترامب لم توجد مشكلة قبل السابع من أكتوبر فى احتلال إسرائيل للأراضى العربية وفى خنقها لقطاع غزة ولا فى استيطانها للضفة الغربية. المشكلة المخلخلة للاستقرار عنده هى فى مقاومة الشعب الفلسطينى لخنقه ولاستيطان أرضه، وهى مقاومة مصطنعة السبب فيها إيران وسياساتها الشريرة. بمعنى آخر لا مشكلة فى الاحتلال والخنق والاستيطان لدى ترامب. هم مقبولون لديه بل إنه ذهب إلى القول بأن مساحة إسرائيل صغيرة لا بد من النظر فى توسيعها. يمكن بالتالى توقع أن يسكت الرئيس ترامب على تدمير ما تبقى من قطاع غزة وربما الرجوع إلى استيطانه، وهو ما سيثير حتما مسألة ترحيل سكانه الفلسطينيين إلى حيث يمكن العيش فى الدول العربية المجاورة، وأولها مصر والأردن. يمكن كذلك توقع أن يسكت الرئيس ترامب على توسع إسرائيل فى استيطان الضفة الغربية وحتى على ضمها إليها، وهو ما سيثير بدوره مسألة بقاء الشعب الفلسطينى على أراضيه. نفس منطق قبول ما تقرره إسرائيل بل والتشجيع عليه ينطبق على لبنان.
التحدى الأكبر فى الشرق الأوسط يواجه الدول العربية المعنية مباشرةً بمستقبل القضية والشعب الفلسطينى وبالصراع العربى الإسرائيلى الذى نفخت فى جذوته من جديد حرب غزة وتبعاتها. التحدى هو فى أن تحدد هذه الدول العربية مواقفها من مقاربة الرئيس ترامب للشرق الأوسط وما ستمثله من تشجيع لإسرائيل على التمادى فى تحقيق غايات سياساتها، وفى فرض هيمنتها على الشرق الأوسط. مقاربة الرئيس ترامب قد تمتد إلى الضغط على الدول العربية المعنية من أجل أن تقبل بغايات إسرائيل. هذا هو جوهر المعضلة التى تواجهها دول الشرق الأوسط العربية. الاتفاقات المسماة «بالإبراهيمية» لم تفد فى شىء فى درء السابع من أكتوبر أو فى وقف حرب الإبادة التى تلته. قد تكون لبعض الدول الأطراف فيها أهميتها بالنسبة لأهدافها، ولكنها مشهد جانبى فى الصراع فى الشرق الأوسط، وأى اتفاقات جديدة شبيهة لها ستكون هى الأخرى مشهدا جانبيا.
يتبقى ما يزيد قليلا عن الشهرين على تولى الرئيس ترامب لرئاسته الجديدة.. لعل الدول العربية المعنية تعد العدة خلالها للتعامل مع مواقف الرئيس القديم الجديد التى سيكون سريعا فى الإعلان عنها وفى إتاحة المجال لتطبيقها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved