مواجهة مع الماضى!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 9 نوفمبر 2024 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

جاءت تجربة ليالى بدر فى سرديتها «على يمين القلب»، الصادرة عن دار العين، مليئة بالحنين والشجن والصدق، تذوب فيها الفواصل بين الوطن والبيت، تعيد اكتشاف الماضى بكتابته ومواجهته، وليس بالهروب منه، فتحضر الشخصيات والأماكن والروائح حيّة نابضة، وتصبح الذات المغتربة عنوانًا على الرحلة والألم، ولكن من دون يأس أو نهاية، لأن هناك دوما بدايات ممكنة.
أحببت النصّ الآسر بعد صفحات قليلة من البدء فيه، ولم أنشغل كثيرا بحدود الواقع والخيال، أو بظلال السيرة وأقنعة الحكى، فالمعوّل عندى هو تلك الوحدة الشعورية، وذلك الصدق الذى تعلن عنه السطور، والمعوّل عندى هو نحت مادة الفن وتشكيلها، بصرف النظر عن مصدرها.
ولكن من المؤكد أن الكاتبة تعرف شخصياتها ومدنها، وتعرف بطلتها غرام، بقدر ما تعرف نفسها، والأهم من ذلك أنها تؤمن بالكتابة كشفاء وكخلاص، أو على حد تعبيرها، فإن الكتابة مثل نار مضرمة فى الصدر، على يمين القلب، إن لم يتم حرقها، بإخراجها على الورق، فستحرق الكاتب نفسه.
غرام هى ابنة خيبات كثيرة، وعلى مستويات عامة وخاصة، والنص يمكن قراءته أيضا على عدة مستويات: كسيرة عائلة فلسطينية بين الوطن والمهجر، وكسيرة امرأة فى وسط ذكورى، وكحكاية وطن تمت سرقته، وتشريد أهله، والمستويات مرتبطة معا، فالحركة لا تتوقف من الخاص إلى العام، وبالعكس، والانتقالات عبر فصول قصيرة معنونة، تأخذنا من القدس إلى أريحا إلى الخليل، ثم إلى الأردن والكويت، والسرد كله عبر صوت غرام، التى كانت تعانى من الاكتئاب، وها هى تحاول أن تتعافى بالكتابة، ويبدو أنها انتصرت على مرضها.
وبين سطور أولى، وافتتاحية تعلِّم فيها الأم طفلتها غرام فن التطريز، لكى تبدأ أول خطوة فى إعداد أول قطعة فى جهاز العُرس، وسطور أخيرة بعد طلاق غرام، وحرمانها من ابنتها، التى يُعاد تشكيلها فى صورة فتاة متزمتة، تبدو المسافة هائلة بين رومانتيكية غرام وواقعها، بين حاجتها العارمة للحب، وبين ظروفها الصعبة والشاقة، وعلاقتها المتوترة فى والدها، والمدهش أن المسافة ذاتها حاضرة بين جمال الطبيعة فى فلسطين، وبين مأساة الحرب والقتل واللجوء والتشريد، وكأن أزمة غرام صدى لأزمة وطنها، وكأن محنة الأرض تصنع محنة البشر.
ربما لم تقصد «ليالى» ذلك، ولكن صدقها وبراعتها وجرأتها فى التعبير عن الحكاية أفرز هذه العلاقات المتشابكة، فمن المستحيل استدعاء الأسرة بدون استدعاء المدن، ولا يمكن استدعاء المدن إلا عبر أزمان صعبة، وأحداث أكثر صعوبة. ولحسن الحظ، فإن الحكاية أبعد ما يكون عن التنميط، لأن الشخصيات تتحوّل وتتغيّر، ولأن فكرة الأبيض والأسود مستبعدة تمامًا.
هذه ــ مثلًا ــ عائلة فلسطينية متعلمة ومثقفة، الأب طبيب شيوعى، ورجل سياسة يتم اعتقاله كثيرًا، والأم أيضًا متعلمة ومناضلة شيوعية، ورفيقة كفاح لزوجها، ورغم ارتباطها به عن حب، فإن حياتهما الزوجية فاشلة، ورغم أن الأسرة فلسطينية ومسلمة، فإن الجدة يهودية، وهنا أيضًا يبدو الموقف معقدًا وملتبسًا.
الأب تقدمى يعلّم بناته، ولكن علاقته المتوترة بوالده، وظروف سجنه المتكررة، ومرارة التهجير ومأساة الغربة، جعلته يعكس أزمته النفسية على بناته، فتؤثر عميقًا على غرام التى تم تزويجها وهى صغيرة بالكويت، وعلاقتها الصعبة بوالدها، وشعورها الدائم بأنها زائدة عن الحاجة وغير مرغوب فيها، بل ومرفوضة، ويجب التخلص منها، سيصنع معاناتها، وسيكون عنوان مشكلتها الدائمة.
تبدو المسافة هائلة بين أفكار الأب وواقعه، مثلما تبدو المسافة على مستوى المكان بين «أريحا» و«الخليل»، الأصل الخليلى المحافظ يتفوق فى النهاية، وتظل غرام حائرة ومعلّقة فى الهواء، بين محنة أسرتها، وبين محنة وطنها، ولا يقلِّل الاغتراب من الأزمة، لأن المجتمع الفلسطينى فى الكويت مغلق على أفراده.
على حافة «الحداثة» تتأرجح العائلة وغرام معًا، وعلى حافة السياسة والحرب تتأرجح الحياة الخاصة والعامة، تهرب غرام دومًا إلى ذاكرة الطفولة الخصبة، وهى أفضل أجزاء الرواية على الإطلاق، وتظل المشكلة فى أن الشخصية لا تستطيع أن تعود إلى الوراء ولا يمكنها تغيير ظروفها، ولكنها لا تتوقف أبدًا عن المحاولة فى اتجاهين:
الحلم باستعادة وطن مسروق، ومحاولة استعادة ذاتها كأنثى وكامرأة فى مجتمع ذكورى، لا توجد فيه تقريبًا فروق بين المثقف والجاهل، فى رغبة السيطرة على المرأة والنظر إليها كتابع، وليس كشخصية مستقلة.
ربما ظهر بعض التباين فى السرد، مرة بطريقةٍ فنية ذكية مفعمة بالتفاصيل والمشاعر، ومرة بطريقةٍ تقريرية أقرب إلى السرد الخبرى الذى يريد أن يتخلص من ذكرى مؤلمة تثقل الكاهل، وتؤرق الخاطر، وربما تحتاج بعض الفصول إلى تعميقٍ أكثر فى خطوط العلاقات، وفى وصف المشاعر والأحاسيس، ولكننا عمومًا أمام حكاية متماسكة، تتحرك بحرية بين الشخوص والمدن، وتمنح الذات الساردة قصتها لونها الخاص القوى والمميز، ولا تتردد فى البوح والمواجهة، فى سبيل استعادة هويتها كامرأة، وكإنسانة، وهى تتأمل الماضى وتحلله مثلما تتأمل ذاتها، ونقاط ضعفها، وإدمانها البحث عن الحب والقبول، تعويضا عن ذلك الحرمان فى طفولتها وشبابها.
منحت هذه الدراسة النفسية النص حيوية فائقة، وخرجت به إلى حدود إنسانية مؤثرة، وبدا لى أيضًا أن هزيمة الحب هى أيضًا عنوان المأساة الفلسطينية، فمن حياة مشتركة بين اليهود والفلسطينيين، تجسدها الجارة اليهودية اليونانية الهاربة، وتجسدها أيضًا جدة غرام اليهودية، العالقة فى مدينة إسرائيلية، نجحت العصابات الصهيونية فى نشر الكراهية والخراب، وارتكبت المجازر، تحت لافتات عنصرية، فبدأت المأساة، ولم تتوقف.
تتفكك العلاقات فى النصّ على كل المستويات، وتتبدد الذكريات الجميلة، على أرض تحتضن قبر إبراهيم وشعيب، ولا يبقى إلا كيس الخيبات الأسود، الذى يتضخم شيئًا فشيئًا، ومعه ذاكرة وطن، يحمله أصحابه معهم فى الإقامة والترحال.
بمزيج الحنين والتأمل والأمل، لم يعد النص كئيبًا، بل صار مثل خيوط التطريز، عندما تنغرز الإبرة فى القماش، فتصنع لوحة نابضة حقًّا بألوان الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved