أوباما وممدانى.. مقاربات ومفارقات!

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 9 نوفمبر 2025 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

كأنها نفس الأجواء والتفاعلات والرهانات. اختلفت الوجوه والأزمان دون أن تتغير زوايا النظر. لا يقارب عمدة نيويورك المنتخب «زهران ممدانى»، بصلاحيات وحدود منصبه، ما كان يحوزه الرئيس الأمريكى الأسبق «باراك أوباما» من مصادر قوة ونفوذ، لكن كليهما حاز فى لحظات الصعود شعبية هائلة حملتهما، بصورة ما، مهمة إنقاذ العالم العربى من أزماته المستحكمة!

عند صعود «أوباما» مطلع عام (2009)، سادت رهانات سرعان ما تبددت، كانت تعوِّل عليه فى إحداث تغييرات عميقة فى المعادلات السياسية الأمريكية. وفى حالة «ممدانى» بدا صعوده إيذانًا بتغييرات محتملة فى بنية المجتمع الأمريكى، أو بولادة جيل جديد أكثر انحيازًا لعدالة القضية الفلسطينية، لكنه ما يزال فى طور التشكل، ولم تستقر كامل حقائقه بعد.

لكل تجربة إلهامها الخاص. تبدّى إلهام تجربة «أوباما» فى كسر التابوهات التى كانت تمنع، ولو بالخيال المحلق، أن يتولى رجل أسود رئاسة الولايات المتحدة، لكنها، فى الحصاد الأخير، لم تُنهِ إرث التفرقة العنصرية، ولا فتحت صفحة جديدة مع العالم الإسلامى.

بقدر آخر، فإن تجربة «ممدانى» اكتسبت إلهامها من برنامجه الاجتماعى الصريح والمتحدى فى عاصمة المال والأعمال وقلعة الرأسمالية، كتجميد الإيجارات، والحافلات المجانية، وفرض ضرائب على الأثرياء، وتمويل رعاية الأطفال، وإنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة.

كلاهما ينتسب إلى الحزب «الديمقراطى». أولهما أقرب إلى جناحه المحافظ؛ نائبه «جو بايدن» ووزيرة خارجيته «هيلارى كلينتون»، وهما يمينيان منحازان للسردية الإسرائيلية، وثانيهما يقف على يسار الحزب، منتميًا إلى مدرسة السيناتور «بيرنى ساندرز» المنحاز بقوة إلى القضية الفلسطينية رغم انتسابه الدينى اليهودى.

لم يكن التنافس الانتخابى فى نيويورك دينيًا، إنه تعبير عن التناقضات الطبقية الفادحة أكثر من أى شىء آخر. يبدو «ممدانى» أكثر استقامة فكريًا وسياسيًا، لا ينفى انتماءه الدينى إلى الإسلام، ولا يعتذر عنه، ويجاهر بكونه اشتراكيًا ديمقراطيًا، ويطلب انتخابه لهذا السبب بالذات: أن تكاليف الحياة فى نيويورك لم تعد تحتمل.

لم يكن «أوباما» على ذات درجة الاتساق. كلاهما خطيب مفوه، غير أن «ممدانى» أكثر شعبوية.

انتخابات نيويورك قدمت نموذجًا يُحتذى ويُدرَس فى التعبئة والحشد ضد رءوس الأموال الضخمة وتدخلات «ترامب» وتهديداته بمنع التمويل الفيدرالى عن المدينة. شىء ما جوهرى يتغير فى أمريكا. إنه زلزال سياسى حقيقى، لكنه فى نيويورك، وليس فى العالم العربى.

تداعياته مؤثرة على قضايانا، شرط أن ننهض للوفاء بواجبنا تجاهها، وألّا نكرر الأخطاء القديمة فى التعويل على آخرين.

 بقوة الحقائق، لن يتعرض «ممدانى» لاختبار «أوباما»، فهو ممنوع دستوريًا من الترشح للانتخابات الرئاسية، رئيسًا أو نائبًا للرئيس.

هو ابن حركة الاحتجاجات الشعبية التى عمّت نيويورك وجامعتها العريقة «كولومبيا»، تضامنًا مع الضحية الفلسطينية فى مواجهة حربى الإبادة والتجويع. بتعبير «ترامب»، فإن من ينتقد إسرائيل يخسر مستقبله السياسى، على عكس ما يحدث الآن تمامًا.

كيف نستثمر سياسيًا فى التحولات العميقة التى تشى بها الاحتجاجات الغربية الغاضبة دعمًا للقضية الفلسطينية؟ هذا هو السؤال الذى لا إجابة عنه حتى الآن!

الوقوف فى مواقع المتفرجين جريمة تاريخية متكاملة الأركان.

فى يونيو (2009)، أطلّ «أوباما» على المنطقة من فوق منصة جامعة القاهرة، متحدثًا عن فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامى. كان ذلك حدثًا استثنائيًا، حاول فيه أن يرمم صورة بلاده المتصدعة دون أن يلتزم بتكاليف سياسية جديدة، فلا أحد يقدم العطايا الاستراتيجية على طريقة «بابا نويل» فى احتفالات أعياد الميلاد.

بعد كل ما حدث من تطورات وحوادث، نحن بحاجة إلى مراجعة لما جرى فى جامعة القاهرة، والرهانات التى صاحبت زيارة «أوباما». كان هوسًا فى غير محله، كأنه «صلاح الدين الأيوبى» جاء حاملًا رايات النصر إلى المنطقة المنكوبة بأزماتها وحروبها.

«أوباما» نفسه استغرب، فى مذكراته، بعض ما رآه فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة العريقة، فما إن صعد إلى المنصة وألقى التحية الإسلامية «السلام عليكم» حتى هلّل الجمهور بحماس بالغ، واستمر يصفق ويهتف طوال خطابه.

رغم ذلك كله، وصف «أوباما» العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بأنها «غير قابلة للكسر». كانت تلك العبارة الصريحة تعبيرًا عن حقائق السياسة الأمريكية المتوارثة، أراد بها أن يضع حدودًا استراتيجية لما يمكن أن يتبعه من سياسات فى تحسين العلاقات مع العالم الإسلامى، وأن أى رهان على صدام محتمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى عهده يتماهى مع الوهم، أو هو الوهم ذاته.

هذا بالضبط ما تحدّاه «ممدانى»، الذى أعلن استعداده لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» إذا ما زار نيويورك. قال إن المدينة تحترم القانون الدولى وأحكام العدالة الدولية، وإنه سوف ينفذ مذكرة التوقيف التى أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية.

المثير هنا أن (40%) من يهود نيويورك انتخبوه، وكان الحماس له فى أوساط الشباب جارفا. هذا التصريح أكسبه شعبية استثنائية فى العالم العربى شبه اليائس من أى عدل، لكنه يظل خيارًا معنويًا يصعب أن يستكمل مقوماته إذا لم يرتفع أصحاب القضية أنفسهم إلى مستوى تحدياتها الوجودية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved