بعيدا عن الزوبعة الخائبة التى أثارها نائب فى البرلمان المصرى حول العظيم نجيب محفوظ وأدبه، الأسبوع الماضى، فإن هذا لن ينسينا الاحتفال بمرور 105 أعوام على مولده، تلك المناسبة السنوية التى أعتبرها فرصة مواتية للاحتفاء بأهم كاتب عربى ظهر فى القرنين الأخيرين، والتنويه المستمر والدائم بإبداعه وإنجازه، والأهم هو لفت انتباه الأجيال الناشئة إلى هذا الإنجاز وصاحبه وحثهم على قراءته والتعرف عليه ومطالعة رواياته.
نجيب محفوظ فى أدبنا العربى المعاصر يحتل المكانة ذاتها التى يحتلها شكسبير فى الأدب الإنجليزى، ودانتى فى الأدب الإيطالى، وثربانتس فى الأدب الإسبانى، وإذا قارنا ما قدمه أبناء هذه البلاد واللغات لأبرز أعلامهم وكتابهم لخجلنا من أنفسنا على الإهمال المتعمد والغرق فى بحار الفوضى والجهل تجاه أعلامنا وكتابنا، وعلى رأسهم نجيب محفوظ.
ومنذ سنوات، قر فى ضميرى ورسخ فى وجدانى ضرورة استثمار أى مناسبة مهما كانت تتعلق بنجيب محفوظ، أحاول من خلالها التذكير والإشارة والتنبيه إلى أن هناك أجيالا ناشئة وموجات من أعمار صاعدة (كل خمس سنوات فى ما أظن) من حقها أن تتوفر لها معرفة أولى ولازمة بكاتبها الروائى الأول. دائما ما نعيب على الشباب والناشئة ونتهمهم بأنهم بعيدون عن الثقافة والقراءة ولا يميلون إلى المعرفة وتثقيف الذات والروح، وأنهم منصرفون بكليتهم إلى أى شىء آخر بعيدا عن القراءة والثقافة والآداب.
وأزعم أن هذه «كذبة» من أكبر الأكاذيب التى اختلقناها وركنا إليها واستسلمنا لدفئها الزائف باعتبارها مقولة ثابتة تدعم شكوانا المتكررة من تراجع الفكر والثقافة والأدب، فى مجتمعاتنا عموما وبين شبابنا خاصة، دون أن نعى أن هناك مسافات كبيرة تفصل بين هؤلاء الشكائين البكائين (خاصة من المثقفين) وبين شرائح واسعة من الشباب لا تنقصهم الحماسة ولا الرغبة ولا الإرادة فى ارتياد أى طريق للمعرفة والفهم والقراءة والتثقيف، فقط ينقصهم التعرف على أول الطريق، الخطوة الأولى التى تتلوها خطوات متصلة، أول الخيط الذى يتلهفون للإمساك به، ومن ثم الانطلاق إلى تجاربهم الخاصة بوعى وفهم.
على كلٍ، وخلال السنوات الخمس الأخيرة، اكتشفتُ أن أعدادا لا بأس بها قد تتعرف على نجيب محفوظ للمرة الأولى من مقالٍ هنا أو ملف هناك، أو «بوست» حماسى على «فيسبوك»، أو غير ذلك من وسائل التواصل والانتشار، وكذلك من إعادة تسليط الأضواء على كتاباتٍ وأعمال تعرضت لأدب وحياة نجيب محفوظ، فيكون ذلك سببا مباشرا أو غير مباشر فى إرشاد هؤلاء الشباب إلى التعرف على جانب أو أكثر من سيرة محفوظ، ومن ثم قراءة بعض أعماله.
فى هذا الاتجاه الذى يتأكد لى، يوما بعد يوم، أهميته وضرورته (حتى لو لم يكن لعتاة المثقفين ومخضرميها حاجةٌ فيها أو منها!) أحرص فى مثل هذه المناسبات إلى الإشارة إلى بعض ما يتصل بالتراث المحفوظى، والتحريض على اكتشافه، ومعاودة قراءته، لعل ذلك يكون سببا لاكتساب ولو قارئ واحد محتمل لأدب نجيب محفوظ.
عنوان المقال مُستوحى من دراسة مهمة أنجزها أستاذ علم نفس الإبداع الراحل مصرى عبدالحميد حنورة قبل سنوات طويلة وصدرت طبعتها الأولى النهائية والتامة فى عام 2008 عن دار الشروق بعنوان «نجيب محفوظ وفن صناعة العبقرية»، وهذه الدراسة واحدة من أهم وأخطر الدراسات التى أنجزت عن محفوظ وكشفت جوانب غير مسبوقة فى إبداعه ومراحل إنتاجه لإبداعه الأدبى، ربما لا توجد فى أى مصدر آخر إلا هذا الكتاب النفيس.
هذا الكتاب، وكما يقول مؤلفه الراحل، ثمرة جهد استمر لأكثر من ثلاثين عاما، جهد مشترك بينه وبين نجيب محفوظ، فعلى مدى عشرات السنين وصلت بين المؤلف وبين محفوظ علاقة شخصية فريدة، ألهمه خلالها الكثير من الأفكار والرؤى والممارسات، ليس فحسب فيما يتعلق بما ورد فى هذا الكتاب «ولكن فى الكثير من الأمور التى ساهمت فى تشكيل بنائى النفسى والأخلاقى».
ومصطلح «صناعة العبقرية» قد يبدو أنه مصطلح متناقض البناء، ولكن المؤلف كان يقصده ويتعمده عمدا؛ لأن هناك من يتصور أن العبقرية خاصية ممنوحة أو أنها هبة غير مكتسبة، الكتاب يقول غير ذلك ويدلل عليه، إنه يقول إنها «أى العبقرية» ــ وعند نجيب محفوظ على سبيل التحديد ــ خاصية مكتسبة وبجهد إرادى وبوعى موجه، ومن خلال سلسلة من الممارسات المتحركة دائما فى اتجاه هدف كان يتحقق بالتدريج فى المسيرة الزمنية الممتدة عبر الزمان ودائما نحو المستقبل.
وبذلك حقق نجيب محفوظ، ومن البداية، ما أسماه المؤلف «التكاملية الإبداعية» من خلال تفعيل المنظومة ثلاثية الأبعاد ــ الوعى والإرادة والحركة فى اتجاه المستقبل، وقد جاء هذا الكتاب ليصف فى مجمل أبوابه وفصوله مسيرة تحقق هذه المنظومة عند نجيب محفوظ.. وللحديث بقية.