(القاهرة مدينتى.. وثورتنا) .. الفصل الأخير
أهداف سويف
آخر تحديث:
الجمعة 10 فبراير 2012 - 9:20 ص
بتوقيت القاهرة
بعد صلاة الظهر مباشرة
الأسطى أشرف ينتظر، كما اتفقنا، إلى جوار الجامع القائم على اليمين بعد نفق الهرم مباشرة. كان قد ذكَّرَنى، برفق، أن أمور الحياة لا تتوقف حتى وإن كنا نقوم بثورة:
«ربنا يقويكم. دى بلادنا دى ممكن تبقى جميلة جدا لو الناس اللى قايمين عليها بيخافوا ربنا» ثم: «ما بتفكريش تيجى تشوفى الأرض كدة ساعة؟»
الأرض! الأرض هى جنينة صغيرة جدا بالقرب من أهرامات الجيزة، اشترتها أمى من نحو عشرين سنة. هى أقل من نصف فدان ولكن بما أننا فى مصر، «كيميت»، بلاد التربة السمراء السخية، فهى تغدق علينا بالبلح والمانجو والليمون والكنتالوب والخضراوات فى مواسمها. اشترتها أمى من الحاج كمال، مُعَلِّم وناظر وصاحب مدارس متقاعد، يحب الجنينة فاستمر يعتنى بها ويتابعها. وكانت أمى تذهب إليها تقريبا كل يوم جمعة بعد الظهر فتجد الحاج كمال يشرف على أمورها فيجلسان فى الفراندة الحجرية يتحادثان فى السياسة من منظور يسارى. وكان الحاج كمال يحب أن يحكى فى التاريخ ويُطَعِّم حكاياه بالنوادر والنكت. وحين توفيت أمى، فى الـ٢٠٠٧، تزامن هذا مع إصابة الحاج كمال بالجلطة. زرناه فى بيته لنتلقى عزاءه فى أمى، وبعد أشهر عدنا مرة أخرى، أخى علاء وأختى ليلى وأنا، لنقدم العزاء لأرملته وأسرته. وانتقل واجب العناية بالـ«أرض» إلى أولاد أمى ــ إلينا.
واليوم الدار الصغيرة المبنية فى الأرض تحتاج إلى إصلاحات، والأسطى أشرف يقوم بهذه الإصلاحات، ولذا نجد أنفسنا، أنا وهو، فى السيارة فى شارع الهرم، يوم الجمعة هذا بعد صلاة الظهر. يبدو أننى كبرت، أجدنى أعجب مرة أخرى للتحولات: كيف امتدت المبانى واحتلت هذه المساحات الشاسعة من الأراضى إبان المرور السريع لسنين عمرى؟ أنجح فى ألا أنظر من النافذة وأقول «تصور كان هذا وكان وكان»، لكنها فعلا كانت: كانت حقول خضراء على جانبى الطريق، حقول خضراء تطعم العاصمة.
«مارَحَلش»، يقول الأسطى أشرف.
«لأ. مارَحَلش».
«الناس كانت زعلانة جدا امبارح».
«أكيد».
«طب هو مستنى إيه؟»
وكان هذا هو السؤال الذى نسأله جميعا.
كنا متأكدين أنه سوف يرحل.
أتى الأربعاء، ٩، ومعه موجة من الإضرابات: فى كفرالشيخ حاصر الآلاف مبنى المحافظة. عمال بتروتريد، والتعاونية، وثلاث شركات بترول أخرى خرجوا منددين بسامح فهمى وزير البترول والثروة المعدنية. أضرب عمال المياه والصرف الصحى فى القاهرة، وأضرب عمال شركات الزبالة. رجل النظام فى نقابة الصحفيين طُرِد من مكتبه، وأصدر شباب صحفيى جريدة الأهرام الملحق «التحرير» المؤيد للثورة. فى كل مكان كان الناس يتلقفون رياح الحرية.
فى الأيام الماضية تشكلت الكثير من اللجان، وتقدمت شخصيات تتحدث باسم واسم واسم.. وترددت اللجان والشخصيات على المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتضع أمامه مقترحات بمجالس رئاسية وبحكومات انتقالية. وأمس الخميس أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه فى حالة انعقاد مستمر لمراقبة التطورات ولتخطيط كيفية حماية الأمة ومكتسباتها وطموحاتها، وتباطأت الكاميرا وهى تمر على الجنرالات فى غرفة اجتماعاتهم المكسوة جدرانها بالخشب والمزينة بالأعلام والرايات والزهور، وبدت وكأنها تؤكد غياب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حسنى مبارك، لأول مرة من مثل هذا الاجتماع.
وبعد الظهر ــ أمس الخميس بعد الظهر ــ كان الكل يتجه إلى الميدان. كنا متأكدون: هذا يومُنا، هذا يوم الحدث. ومرَّت الساعات.. ثم مرَّت الساعات، ساعة جامعة الدول العربية تقول إنها السابعة، ثم الثامنة، فالثامنة والنصف، والميدان ــ بل الميادين كلها ــ تحبس أنفاسها، تنتظر، على أهبة الاحتفال.
أقف أنا أمام منصة «فنانين الثورة». مثل مئات الآلاف حولى لا أستطيع أن أقف ساكنة، أتقافز قليلا، أُلَوِّح، أرفع يداى فى شارات نصر. على المسرح فرقة «وسط البلد» تغنى. ليس هناك مجال للرقص فالزحام لا يُمَكِّن أحدا من الحركة، لكن الكل يتمايل ويصفق ويغنى. يد السيد عمر مكرم المرفوعة تباركنا جميعا، كما يباركنا ذلك القمر النصفى الذى يرقد ــ فعلا ــ بين أسعاف النخلة التى تعلونا. التحرير يفور، يميد، يزبد. البلد كله ينتظر، العالم كله ــ ربما ــ ينتظر. ننتظر. أهلى فى الميدان ــ مع مليون مواطن آخر. سنتلاقى بعد حين.
التاسعة والنصف ولم يجد جديد
فى اليوم التالى سنعرف أنه بينما كنا، نحن الشعب، ننتظر فى التحرير، كان رئيسنا، الذى سوف يُخلَع قريبا، يتحدث عبر الهاتف مع صديقه وزير الدفاع الإسرائيلى السابق، بنيامين بن إليعازار. ولمدة عشرين دقيقة كان يشكو لصديقه خذلان الولايات المتحدة، وهجرانها له، وكان يتنبأ بأن الاضطرابات والقلاقل المدنية لن تتوقف عند حدود مصر بل سوف تمتد إلى الشرق الأوسط كله، ثم أيضا إلى الخليج ذى النفط.
يد على كتفى: يد أخى. لا أعلم كيف وجدنى، لكننى أُمسك بذراعه ونمشى وسط الزحام لنصل إلى سهير، زوجته، فنجلس أنا وهى على حرف الرصيف نواجه تمثال عمر مكرم. يأتينا أحد الكرام بالشاى فنمسك بالأكواب بامتنان، نُعَرِّض أكفنا للدفئ بقدر ما نستطيع. يقف علاء مع مجموعة من الأصدقاء تناقش الطرح: هل نحن فى الحقيقة نعيش انقلابا عسكريا سوف يُحوِّل ثورتنا إلى عرض هامشى؟ نحن بحاجة إلى شخصية، أو مجموعة، تتقدم لتُمثل هذه الثورة وتعبر عنها، تعلن هذا التمثيل فى التحرير، وبالتحرير من حولها يؤازرها. يبدو أن الفرد الوحيد الذى باستطاعته أن يقوم بهذا الدور الآن هو الدكتور البرادعى، لكنه، حين أتى إلى التحرير لم يبق أكثر من نصف ساعة وغادر. يقولون إنه لا يحب الزحام.
الشباب يحاولون منذ أيام ان يُكَوِّنوا تحالفات، ائتلافات، حكومات. كانوا أحيانا يستشيروننا، نحن الـ«عواجيز»، فنجلس فى عرض الشارع فى التحرير المعتصم نشكِّل وزارات وحكومات. لكننا فى مفرق صعب: لا نمتلك آلية تُمَكِّن الميدان من انتقاء من ينوبون عنه للتفاوض باسمه ــ أو بالأحرى، هناك آلية تتشكل لكنها سوف تأخذ وقتا أكثر بكثير من المتاح لنا. ولذا تأخذ اللجان، والشخصيات، والقيادات القديمة على عاتقها أن تقوم بهذه المهمة، فيذهبون إلى مجلس قيادة القوات المسلحة يحادثونه، والمحادثات ــ لا نقول إنها سرية، لكنها ليست علنية، فأوصلنا هذا إلى ان كل من يتصل بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة أو يتحدث معه يفقد مصداقيته اليوم فى الميدان.
نقوم، أنا وسهير، من على الرصيف، نتمشى. تقترب منا ثلاثة شابات، يسألن إن كنت أنا أنا، شاهدونى فى التليفزيون ويروننى «محترمة» ويردن الحديث. إحداهن طبيبة، والشابتان الأخريين فى الثانوية العامة وتنويان العمل بالصحافة. الثلاثة يسكن المعادى ولهن أيام يجمعن المعلومات والملفات حول الشهداء الذين قتلوا هناك يوم ٢٨. يردن الوصول إلى الإعلام الـ«نظيف». والطبيبة تريد أن تعرف طريق هيئة أو جمعية تمكنها من خدمة المصابين. يقلن إن عدد الذين قتلوا فى المعادى يصل إلى أكثر من عشرين، وإن الشرطة كانت بالغة القسوة، وإنها أطلقت المسجلين الخطر ضد الناس، وانها استخدمت الرصاص الحى من البداية. ويقلن إن قناصا تمركز بالقرب من البيت الذى يسكنه السفير الأسرائيلى، وان هذا القناص كان يقتل أى شخص يدخل فى مجال رصاصه. دُرْن يجمعن الشهادات والمعلومات من أسر الشهداء والمصابين. يقلن إن المنطقة حول شارع الجمهورية امتلأت بملصقات الشهداء وكأننا فى نابلس أو بنت جبيل. نتبادل أرقام الهواتف بينما تتصاعد أصوات تطالب بالصمت: «بس! بس ياخواننا! سكوت عشان نسمع!»
ولا نكاد نصدق: هو لا يتنحى. لا نكاد نصدق: هو لم يفهم. لكننا نصدق تماما: لم يتمكن من التغيير، لا تغيير الدور، ولا تغيير اللعبة.
نقف بالملايين فى طول البلاد وعرضها نستمع إليه وهو يحدث الشباب من علٍ: «أحدثكم كأب». يؤكد لهم أن دماء «شهدائكم» ــ أى الشباب الذين قتََلَهم، قتلتهم شرطته وبلطجيته ــ ونعتقد أنهم أكثر من ثلاثمائة ــ أن دماءهم لن تذهب هباء. يعدنا انه سيتحرك إلى الأمام كى يحقق الطلبات الشرعية. يبدأ البعض فى إطلاق الهتافات الغاضبة لكن الميدان يسكتهم. نستمع إليه باهتمام بالغ. يطلق تلك الجملة المرهَقة: «لن تملى علينا جهات خارجية ــ» فنحدِّق فى بعضنا غير مصدقين، هذا الرجل كان طوع إشارة أمريكا وإسرائيل لمدة ثلاثين عاما والآن وفجأة لن تملى عليه قرارات من الخارج! حين يعلن إصراره على أن يستمر فى خدمة بلاده ننفجر «ياللى ما بتفهمشى: إرحل يعنى إمشى!» يعدنا بالحوار، كلام كلام، بالتعديلات الدستورية، كلام كلام، يتحدث عن روح الفريق، كلام كلام، وعن حماية الاقتصاد فتصيح الجموع «حرامى! حرامى!» ثم يبدأ فى لازمة «كنت شابا مثلكم» فتضج السماء بآهات ملل عظيمة من شباب مصر كلها، وحين ينتهى بتفويض سلطاته إلى نائبه ينفجر الميدان: «لا مبارك ولا سليمان/ مش عايزين عملا كمان!».
الميدان هو الغضب والثورة والدموع. ماذا علينا أن نفعل لنزيح الرجل؟ أكتب للجريدة: «باختياره لهذا الطريق يتعمد مبارك دفع مصر أكثر وأكثر فى اتجاه الأزمة. هو يدفع بالقوات المسلحة إلى موقف سوف تضطر فيه قريبا أن تواجه إما الشعب ــ أو الرئيس وحرسه الرئاسى. ونتيجة موقفه هذا انه حين تأتى لحظة انتصار الثورة سوف تكون القوات المسلحة فى وضع أقوى بكثير من وضعها فى ٢٥ يناير. لكننا فى الشوارع، وسنظل فى الشوارع، لن نعود إلى البيوت».
ثم بدأ الناس فى التحرك. تحركت جموع نحو ماسبيرو، لكنها فقط تحاصر مبنى الإذاعة والتليفزيون ولا تحاول اقتحامه. وتبدأ جموع أخرى المسيرة الطويلة نحو مقر مبارك فى القاهرة: قصر العروبة.
«هو لسه مش فاهم» أقول للأسطى أشرف.
يجيب: «هو فاهم. بس هو عنيد».
اتصل بليلى واسألها عن الأخبار. تقول إن الناس، ملايين من الناس، ناس لم ينزلوا إلى الشوارع وإلى المظاهرات من قبل ــ يتحركون، يتوجهون نحو الميادين. وأن التحرير مليان عن آخره.
«النظام ده عنده يخرب البلد ولا إنو يمشى»، يقولها الأسطى أشرف ثم ينزل من السيارة ليفتح بوابات الأرض.
حين أكون هنا أشعر أننى بعيدة تماما عن العالم، لبرهة. لكنى أنشغل بأمى. كنت أتهرب من أن أصحبها إلى هذه الحديقة، كانت تطلب منى، وكنت كثيرا ما أتهرب. ليتنى ما فعلت. ماذا أنجزت فى تلك السويعات التى وفرتها بعدم مصاحبتها؟ أتمنى ــ أقول ياريت كنت قمت بهذه الإصلاحات وهى موجودة. لكنها لم تكن لتسمح لى، كانت تعارض تبديد المال فيما هو ليس ضرورى. لكن ــ ربما كانت ستسمح لى. كانت، بعد أن أقوم بالتغيير والتوضيب، يعجبها. ومن الغريب ــ الغريب جدا ــ أننى قمت بإصلاح وتبييض مدفننا قبل أن تذهب عنا بأسابيع قليلة. كان لى سنين أريد ان أقوم بهذا العمل، لكنى أخاف، أخاف إن قمت به أن يكون فألا سيئا، وكأنى أتوقع للمدفن أن يستقبل ضيفا جديدا ــ ضيفا يقيم. ثم جاء وقت دخل فيه والدى المستشفى لفترة وبيضنا البيت وأعدنا تنجيد الأثاث لاستقباله حين يعود. فقلت لنفسى إن هذا العمل فيه من التفاؤل والثقة فى الحياة والتمسك بها قدر يسمح بتمرير تبييض المدفن. دهننا السقف بالأزرق الفرعونى، يفصله عن الحائط بلون سن الفيل خيط رفيع من الذهبى القانى. صقلنا الحجر والطوب والرخام والبلاط ووضعنا سلكا جديدا على المنافذ وأتينا بأصص نبات ومزهريات جديدة. وبعد أسابيع استقبل المدفن أمى.
الأسطى أشرف يمسك بالباب. هو دائما مرتب مهندم أنيق وكأنه خطى للتو خارجا من كتاب المطالعة. يريد منى أن أقرر: علينا أن نصف البلاط، فإلى أى حائط نحاذيه؟ الحوائط والأرضيات والزاوايا كلها غير منتظمة فى هذا البيت، فمهما عملنا لن يكون كل شىء منتظم. أريد أنا أن أضبط البلاط فى مركز الغرفة الكبيرة، فى وسطها، ثم تكون هناك الفروق والفوائض عند الجدران، لكن المبلط يقول إننا لا نستطيع ان نفعل هذا أو لا يجوز أن نفعل هذا فأختار بعشوائية حائطا فى المطبخ وأقول لنَصُّف بمحاذاة هذا إذن.
أتسلق السلم الضعيف وأجلس على السطوح. الأهرامات هناك، وراء هذه الأشجار. فى طفولتى كنا نزورها على الأقل مرة فى كل شهر، نجرى ونرمح على الرمال، نقيس أطوالنا المتغيرة ونقارنها بارتفاع أحجار المصطبة الأولى فى هرم جدنا خوفو، ثم نحاول أن نتسلق مصطبتين أو ثلاثة.. أو أربعة، وأخيرا نتناول الشاى فى استراحة الملك (الملك ــ الملك فاروق ــ كان له استراحات فى الهرم وحلوان والفيوم وكل المناطق الجميلة فى مصر فلما جاءت ثورة يوليو حولتها كلها إلى استراحات للشعب)، ودائما دائما كنا نقف عند حافة الهضبة، ننظر نحو القاهرة، ونعجب للخط الفاصل بين الصحراء والوادى الأخضر، كم هو محدد قاطع لا لبس فيه ــ ذلك الخط الذى تقع عليه هذه الحديقة الصغيرة، الخط الذى أقف عليه أنا الآن.
أنا بحاجة إلى أن أذهب إلى مدفننا. لم أزرهم منذ فترة: أمى وخالتى عواطف وخالى، جدى وجدتى، كلهم هناك.
حين أَخرج ابنى، عُمَر، فيلمه القصير الأول، «ما يدوم»، صَوَّر لقطة منه فى المدفن: علَّقوا ملايات بيضاء لتعكس الضوء على المشهد، صعد الشباب إلى السطح وثبتوا أطراف الملايات على حرفه بقوالب الطوب، وأثناء التصوير انزلقت طوبة فهوت من السطح لتضرب عمر فى رأسه. والآن وإلى الأبد، فى ضوء الشمس الساطع، معروض كالفيلم على الشاهد الرخامى الذى يعلو مكان أهلى الذين أحبهم ولم أعد أراهم، أرى ابنى، ممسكا بالكاميرا، يتهاوى بطيئا إلى الأرض، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، وعلى وجهه الذى تنزل عليه نهيرات الدماء الحمراء تعبير لا ينم عن ألم أو خوف وإنما عن دهشة متناهية.
أنزل من السطوح ونتناقش حول السقف الجديد: سنصنعه من جريد النخل.
عم حامد، الذى يعنى بالجنينة وزراعتها، يدعونى أن أمشى معه إلى الجدار المتآكل الذى يحدد أحد جوانبها. الأولاد يمرون عبر هذا الجدار ويسرقون الفاكهة، وهو يريدنى أن أعيد بناءه. لا أقدر أن أقول له إن الفاكهة التى يرسلها لنا هى من الكثرة بحيث إننا ــ وحتى بعد أن نوزع منها على الأهل والأحباب ــ لا يمنع أن نجد حبة أو حبتين تذويان فى قاع درج الثلاجة، فلماذا لا يأخذ الأولاد بعض الفاكهة؟ أقول «نستنى شوية على الحيطة، كفاية مصاريف تصليح البيت».
نمشى فى الأرض ونلتقط حبات الليمون ويرينى عم حامد نخلة تهاوت، طولها الفارع يرقد الآن على الأرض.
«طب ــ إيه اللى وقعها؟»
«عمرها».
«شوفى فضل ربنا سبحانه وتعالى ــ» يقول الأسطى أشرف، «النخلة، حتى لما تقع، تقع فى مكان فاضى، ما تقعش على حاجة ولا على حد».
ويتفق معه عم حامد: «النخلة ما تإذيش أبدا، حياة وممات».
الرابعة بعد الظهر
«باى!»
«سلام!»
«باى!»
سلسلة من الوداعات. الأبواب تغلَق بدرجات متفاوتة من العنف والرقة. تخرج سهير ثم أخى ثم سالمة ومريم وتشكيلة من الأصدقاء والأقارب الذين كانوا فى البيت. الكل ذاهب إلى التحرير وأنا جالسة إلى مائدة السفرة فى بيت أخى لأعمل على النص الذى علىَّ أن أتِمُّه وأرسله إلى الجريدة فى اللحظة التى ينتهى فيها مبارك من خطابه. هل سيرحل؟
أنا جاهزة للخروج حالما أرسلت المقال. حقيبتى على كرسى إلى جانب الباب والبطاقة والمفاتيح فى جيبى. المحمول لا يكف عن الرنين: لندن، مونتريال، دلهى، دبلن، العالم يريد أن يعرف كيف نشعر ونحن فى التحرير، وأضطر إلى القول والتكرار: لا أعرف لأننى لست فى التحرير. لكن التحرير مليان عن آخره، الملايين فى التحرير.
أكتب وأقوم أخطوا. ذهابا إيابا. أكتب وأناور. هل سيكون نصا يحتفى بحريتنا؟ أم سيكون نصا يصر على المثابرة، الاستمرار؟ جيئة وذهابا وأرد على الهاتف وعينى على شاشة التليفزيون. التحرير هو مركز الكون، وهو على بعد عشرة دقائق وأنا لست هناك. أخرج إلى الشرفة. الشارع مهجور. الخفافيش تلهو مرحة فى أشجار المانجة. أكتب فقرة جديدة. جيئة وذهابا. أراجع أشيائى فى جيوبى وفى حقيبتى.
السادسة مساء
تَمّ. بيان مقتضب يلقيه عمر سليمان وهو يبدو ميتا أكثر حتى من المعتاد، وخلفه فى الكادر رجل ثقيل البنيان مقطب الجبين. حسنى مبارك تنحى والقوات المسلحة هى حاكم البلاد. قلبى يدق يدق يدق ويداى قطعتان من الثلج. المشاعر تتدفق داخلى. أظن أننى سوف أنفجر وأتناثر على السقف والجدران. أجرى إلى المائدة وأقرأ ما كتبت. أكاد لا أستطيع القراءة لكن من الواضح أن هذا النص لن ينفع. أجلس. أغمض عينىَّ وأجبر نفسى على الإبطاء، على أخذ عدد من الأنفاس العميقة. ثم أبدأ من جديد فأكتب:
«فى ميدان التحرير وفى شوارع مصر أصر الشعب على استعادة نفسه وإنسانيته. والآن سوف يستعيد دولته. منذ هذه اللحظة ليس لنا رئيس سارق، ولا نائب رئيس يؤجر بلادنا مقر تعذيب لاستعمال الإدارة الأمريكية، لا وزارة فاسدة ولا برلمان مزيف ولا قانون طوارئ. رحل النظام وبدأنا مرحلة جديدة. على مدى أسبوعين كانت الناس تهتف «الشعب! الجيش! إيد واحدة!» سوف نعمل الآن على أن نجعل هذا الهتاف يعكس حقيقة إيجابية إلى أقصى حد: القوات المسلحة سوف تضمن أمن البلاد وسلامتها بينما نحن نشكل ونبنى المؤسسات المدنية التى ستعمل على بلورة خطتنا ــ خطط الشعب لهذه البلاد.. فى التحرير التقيت سيدتين فى المراحل الأخيرة من الحمل، كانتا بانتظار الولادة بين يوم وآخر وتريدان لمولوديهما أن يأتيا إلى مصر حرة. الآن يمكنهما الوضع.. راقَب العالم هذه المعركة بين ــ من ناحية ــ حكومة فاسدة عنيفة متسلطة متشبثة، تحت يدها كل أدوات الدولة، ومن الناحية الأخرى تكوين عضوى هائل متنوع من المواطنين، أدواتهم هى أجسادهم ــ والكلمات والموسيقى والشرعية والأمل. وصلت إلينا مساندة شعوب العالم صادحة عالية لا تُخطأ، وما حدث هنا عبر الأسبوعين الماضيين سوف يمد المواطنيين والمدنيين فى كل مكان بالصوت وبالقوة.. يبدأ عملنا الآن: أن نعيد بناء بلادنا على شكل مثالى، جميل كجمال الثورة التى قمنا بها لاسترجاع الوطن. أن نتذكر دائما شبابنا الذين استشهدوا فى سبيل أن يحدث ما حدث الليلة، وأن نحملهم معنا إلى مستقبل يليق بهم وبنا، ويليق بأصدقائنا، ويليق بالعالم.. تأملوا شوارع مصر الليلة: هكذا يبدو الأمل».
أدوس على «ارسل»
أنطلق فى شارع الدقى ثم شارع المساحة فأجدنى فى زنقة مرور فى ميدان الجلاء: الكل يحاول الوصول إلى التحرير. أجلس فاتحة النوافذ ليدخل منها صوت الطبل، صوت الفرح. الناس يرقصون، يتقافزون على الجزيرة فى وسط الميدان، يرقصون على السيارات، يضحكون، يوزعون الحلوى. يمر رجل بأكواب من الشربات. الأطفال والشباب يتسلقون أعمدة النور لكى يلوحوا بأعلامهم من أعلى موقع ممكن. أهاتف أختى، أبى، أخى، عمر، إسماعيل، خالتى ليلى. أهاتف الأسطى أشرف: مبروك، مبروك، مبروك. لا نتحرك سوى بضعة سنتيمترات من حين لآخر. ليست مشكلة، المهم أننا خلعناه، وأننا نتحرك.
تكاد لا ترى أسود قصر النيل من تكدس الأطفال فوقهما. مئات الأيادى ترفع الموبايلات عاليا: الكل يريد صورة فى اللحظة، وأنا جزء، خلية، فى موجة الإنسانية الفرحة التى تموج عبر الكوبرى، عبر النهر، نيلنا، حَىّ بالأضواء المتلألئة، بالألعاب النارية، بدقات الطبول.
ثم التحرير
تأخذ نفسا عميقا على عتبة التحرير. الميدان تتصاعد منه طاقة عجيبة، هدير صوت الشعب الفرح، والصواريخ والشماريخ تزهر، وتخبو لتزهر ثانية، وآلاف الأعلام والرايات تلوح، واللافتات المرفوعة تحتفل «خلاص مافيش تعذيب»، «أهلا ببكرة!»، «مبروك للدنيا!» وقرب محطة المترو يلاقينى صوت عبدالحليم: بالأحضان بالأحضان بالأحضان، بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان.. آخر مرة سمعت هذه الأغنية كانت فى فى ٢٠٠٥ فى المسرح الكبير فى دار الأوبرا وتفاجأنا جميعا ــ فاجأنا أنفسنا، حين أخذنا ــ نحن الجمهور ــ نبكى بحرقة. والآن أرانا هنا نبكى من الفرحة ونضحك ونحضن ونسلم على بعضنا ــ وحين تنتهى بالأحضان وبدون فاصل يتصاعد ذلك النشيد العربى الذى كان مغضوبا عليه سنين طويلة والذى يتضح أن الشباب أيضا يعرفه عن ظهر قلب فيغنى الجميع مُقْسِمين «فى فلسطين وجنوبنا الثائر هنرجعلك حرياتك» ثم، وبصوت أرَقّ، «إحنا وطن يحمى ولا يهدد، إحنا وطن بيصون ما يبدد» وها هم الألتراس يجوبون الميدان، أحبابنا الألتراس، الروح ترتفع حين نراهم، تكاد ترى الطاقة شررا حيا ينبثق عنهم، يطقطق كالنار الملونة، كالشماريخ، على جدران جامعة الدول العربية: «اللى يحب مصر/ ييجى يصَلَّح مصر»، من على جدران المجَمَّع: «هنتجوز/ وهنخَلِّف»، من على المتحف المصرى: «إرفع راسك فوــوــق/ انت مصرى! إرفع راسك فوــوــق/ انت مصرى! إرفع راسك فوــوــق...».
وفى قلب الميدان الصينية، وفى قلب الصينية سكون. صور الشهداء. شبابنا. سالى زهران: ضربات عنيفة إلى الرأس، تلقى إلينا بنظرة جانبية بها شقاوة، وتضحك. محمد عبدالمنعم: طلق حَىّ فى الرأس، شعره مرتب بعناية بالجل. على محسن: طلق نارى، يحمل طفلا صغيرا ضاحكا على خلفية من بحر أزرق واسع. محمد بسيونى: طلق نارى، يستلقى مبتسما حاضنا طفليه. محمد عماد، يفتح ذراعيه واسعة مرحبة ويرتدى تيشيرت مكتوب عليه «لندن». إسلام، يأخذ وضعا تاريخيا أمام النيل. إيهاب محمدى يبتسم لكن عينيه بها شرود.. وآخرون وآخرون، ٨٤٣ آخرون. فى لحظة الانتصار، هذه اللحظة الفرحة المستبشرة المبهمة، هم القلب الساكن: شبابنا الذين نزلوا إلى الميدان مُصِرّين ومسالمين لينقذوا بلادهم وينقذونا. مستقبلنا دفعوا ثمنه بأرواحهم. لذا فلا تراجع. أبدا.