لسنا بكفرة
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 10 فبراير 2019 - 11:50 م
بتوقيت القاهرة
كم هو كافر ذلك الذى يسمى العوز أو الفقر أو الاحتياج، هو الكفر حقا وإلا فلماذا يحرق العربى نفسه من تونس حتى بيروت مرورا بالقاهرة.. لم يعد العربى يحتمل الذل أو ربما حتى لو استطاع لوهلة متذرعا بأنه يتحمله من أجل أولاده حتى يربيهم ويعلمهم فيكبروا ليكسروا تلك الحلقة نفسها.. حلقة الفقر المصاحب لكل آلام الكون.
***
يمرون أمامنا يوميا، يجرون أجسادهم جرا، يبتسمون رغم الوجع ويسيرون حاملين بعضا منه، ذاك الذى اسمه الأمل، ولكن تطاردهم أشباح أولئك، بعضهم يحتقر الفقر والعوز أليس كذلك؟ بعضهم يتصوره خيارا للمواطن العربى، بعضهم يجمل تعاليه و«قرفه» من الفقراء والمعتازين بأنهم «كسالى» لم يثابرواعلى العلم والمعرفة أو أنهم لا يمتلكون الخيال الواسع، وهذه اللحظة التاريخية والزمن يتقدم أسرع من دقات القلب، بحاجه إلى من يملكون الإبداع والمخيلة الواسعة والمعرفة بالتكنولوجيا، وتعابير تمرسوا على تكرارها وحفظها مثل الثورة الصناعية والذكاء الصناعى.. نخدع أنفسنا إن تماشينا مع هكذا منطق معوج، بل إننا بذلك نشوه أجيالا قادمة ستتصور أن فقرها سببه الآباء والأمهات الذين لم يبذلوا جهدا أكبر لتنشئة تبعدهم عن أشباح الجوع والعوز.
***
هو زمن اللا منطق، هو زمن أن يبقى المنافق والفاسد والمرتشى ووريث المال الملوث أحيانا، يبقى كل هؤلاء ليشكلوا طبقة علية القوم التى تسير أوضاع البلاد والعباد وتحاكم الفقير لفقره والكادح لعرقه، بل ربما تصاب بالغثيان من نفس ذاك العرق وهو رائحة الأرض الطيبة التى صنعت كل تلك الأوطان الممتدة، والتى جاءت بطبقات تحكم وتسيطر حتى لوثت الأرض برائحتها النتنة فغطتها بكل أنواع العطور فأصبح سعر قارورة العطر أغلى بكثير من برميل النفط الذى يعيشون منه ويتكلون عليه صباحا مساء لعقود طويلة.
***
يحرق هو نفسه لأنهم منعوه من العيش «المستور» عبر عربته التى يجول بها ليبيع الخضار، أو ذاك الذى يكد ويكدح طول النهار ليدفع أقساط مدرسة خاصة عندما رفعت الدولة مسئوليتها عن التعليم فقد اكتفت بأبناء «القادرين» ليشكلوا شريحة التكنوقراط لديها وعلى الباقى أن يقتات بالفتات ويعيش عليه أو أن ينتظر ربطة خبز أو علبة سردين ترمى له من قبل جمعيات احترفت العمل الخيرى بدلا من أن تعمل على إعادة كرامة الإنسان بمهنة كريمة تسد الرمق وتكفى لأقساط التعليم.. وقف ذاك اللبنانى أمام باب مدرسة أبنائه لم يحتمل الإذلال لأبنائه وهو ينظر فى عيونهم المليئة بالدمع متشوقة لأن تكون كما كل الأطفال.. طفل أو طفلة بحقيبة وقلم وابتسامة بريئة.. حتى هذا الحلم المتواضع لم يعد متاحا لفقراء هذه الأوطان المغمسة بالفساد حتى اعتلت أعلى المراتب فى تلك اللوائح المشينة وحتى أصبحت التنمية مهددة بهذه الآفة أو ذاك المرض المزمن المتأصل فى تفاصيل الدولة الحداثية.
***
أما قبل أسبوع فقد اختار ذاك العربى الآخر أن يقتل أبناءه ثم ينهى حياته، هو الآخر لم يعد يتحمل إحساسه بالعجز الدائم وهو غير قادر على أن يكسى أو يطعم أو يعلم أبناءه.. تتكرر المشاهد فى كل الزوايا من البحر إلى آخر ذرة ملح وتبقى الصور المتلاحقه حتى فى ما يسمى بأرض النفط، هناك كثير من الحرمان والعوز مخبئين خلف بارفانات من المظاهر الخادعة.. هناك أيضا قالت الدولة كلمتها الأخيرة، لقد «رعيناكم» فى دولة «الرعاية» حتى حان وقت النضج فعليكم الآن السباحة فى بحر الحياة وحيدين.. مضحكه تلك العبارة لأن باستطاعة الطرف الآخر أن يرسل الأسئلة المتلاحقة ويؤكد ماذا فعلتم بملايين بل بلايين النفط التى تكدست أو ربما تسربت، وما ذنب المواطن إن كان علينا توفير طائرة خاصة لكل مسئول وأسطول من السيارات الفاخرة وشقق وبيوت فى ضواحى المدن البعيدة، والبحر يشهد على ما نقول، فاسألوه هو كم دفع الأثمان باهظة كما كل مواطن ومواطنه بسطاء أو طبقة وسطى أو حتى تلك الطبقة التى صدقت أن بالعلم يصل الإنسان إلى السماء السابعة ويحقق أحلامه وأحلام أبنائه، ولم تعرف أن فى أوطاننا حتى العلم أصبح لا قيمة له إلا إذا ترافق مع ختم خاص جدا!
***
كم عربى سيحرق نفسه أمام أعيننا قبل أن نتوقف عن مطالعة نشرات أخبارهم المزيفة وحفلات الترويج الممجوجة لبرامجهم التنموية «العبقرية»، وحتى متى تبقى الأغلبية العظمى تنتظر المخلص أو ربما غودو؟ ومتى يعرفون أن الإنسان لا يعيش بالفتات بل ببعض من كرامة وعزة.. معه حق العبقرى زياد الرحبانى عندما ردد «أنا مش كافر بس الجوع كافر»