بومبيي لم تكن فاسقة
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 مارس 2009 - 6:48 م
بتوقيت القاهرة
من هواياتي قراءة عرضين أو ثلاث لكتاب قرأته، أو لكتاب لم تسمح الظروف بقراءته. الأصل في قراءة عـروض الكتب الاستمتاع برأي يختلف عن رأيي في الكتاب وكفاءة العرض في انتقاء أفضل ما في الكتاب وسعة اطلاع كاتب العرض ومنهجه في النقد ودرايته بخلفيات موضوع الكتاب وسيرة المؤلف . وقد اكتشفت أن هذا الاستمتاع يتضاعف عند قراءة مقال يعرض لمجموعة من الكتب تناقش موضوعاً واحداً، ولكن استمتاعي يصل إلى أوجه عند قراءة عرضين أو أكثر لكتاب واحد، فالمقارنة بين العروض تثير أسئلة لا تثيرها عادة قراءة العرض الواحد.
عرفت مؤخراً أن كتاباً جديداً صدر يحكي قصة "بومبيي" Pompeii المدينة الرومانية القديمة التي ردمتها حمم بركان فيزوفيوس ( فيزوف) في الجنوب الإيطالي .ترددت في البداية في قراءة العروض التي نشرت فالقصة روتها كتب التاريخ وصورتها السينما وصدرت روايات كثيرة دارت حول تفاصيل الحياة والموت فيها . وقد زارها مئات المشاهير ،وكانت كما يقول أحد العارضين للكتاب مصدر إلهام للعديد منهم، أو كانت هكذا على الأقل بالنسبة لموتسارت الذي زارها عام 1769 فألهمته أفكاراً لأوبرا "المزمار السحري" . وساد الزعم ومازال يسود ، بأن بومبيي هي المدينة التي وردت نهايتها الدرامية في كتب سماوية وأساطير وروايات شعبية في عديد من الثقافات ولعلها كانت القرية أو المدينة المقصودة بالآية الكريمة "و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" .
وبالفضول نفسه الذي دفعني دائماً لقراءة قصة الأيام الأخيرة في حياة بومبيي مرات ومرات قرأت عرضين لكتاب قامت بتأليفه الأكاديمية ماري بيرد Mary Beard بعنوان "بومبيي: الحياة في مدينة رومانية". وكانت المفاجأة حين اكتشفت أن الإثارة في قصة بومبيي كانت وراء مبالغات كثيرة في نقل وقائع ما حدث وطبيعة الحياة في المدينة عبر الأجيال والقرون . ينقل الكاتب Michael Bywater أحد العارضين للكتاب عن رونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق عبارة صارت شهيرة بعد أن تعرضت لانتقادات شديدة من رجال سياسة وإعلاميين . قال رامسفيلد "هناك ، كما نعرف ، أشياء معروفة نعرفها وهناك أشياء نعرف أننا نعرفها . ونعرف أيضاً أن هناك أشياء معروف أن أحدا لا يعرفها بمعنى أن هناك بعض الأشياء لا نعرفها، ولكن هناك أشياء غير معروف أنها غير معروفة.. هذه الأشياء التي لا نعرفها.. هي في واقع الأمر أشياء لا نعرفها".
كان القصد وراء العبارة سياسياً وقد تصلح أيضاً في معرض الكتابة في التاريخ. وبخاصة عندما يتعلق الموضوع بقضية تاريخية مثيرة مثل قضية المدينة الساحرة المستلقية على شاطئ البحر ، شوارعها المستقيمة النظيفة تمتد من أولها إلى آخرها ، وعلى كل ناصية من نواصيها يقوم بيت دعارة ، وفي كل حي ساحة واسعة يقضي فيها الأغنياء وكبار القوم أوقات فراغهم يتسلون باللعب والشرب والرقص .
مدينة تنتشر فيها الحمامات التي يقصدها الخاصة وأخرى يقصدها العامة عرفت جميعا بحمامات ستاهيان ، وعلى جدرانها لوحات فنية رسومها تخدش حياء سياح قدموا خصيصاً من أرجاء الأرض من أجل مشاهدتها ، أمثال هؤلاء السياح، وأكثرهم من الأمريكيين، قابلتهم في معبد كاجوراو في الهند يلتقطون صور الحب باعتباره أحد أهم مظاهر القداسة وأساليب التعبير عنها في العديد من الثقافات الشرقية ، وبين التماثيل تماثيل تمثل ممارسات الحب بين الآلهة .
عبت وما زلت أعيب على هؤلاء السياح أنهم حين يخرجون من المعبد يحتجون لأن حكومة الهند سمحت لهم بدخول المعبد . جاءوا من آخر بلاد الدنيا ليشاهدوا هذه التماثيل وليس لغرض آخر. كانت هذه التماثيل كما كانت اللوحات في بومبييي الدليل عند هؤلاء السياح على أن الأخلاق في هذه المدينة أو في هذا العصر أو في ثقافة بعينها كانت منهارة. وفي بومبيي تحديدا الفسق منتشر في البيوت والشوارع والحمامات والساحات . بل وكتب كثير من المؤرخين عن كيف أن كل بيت دعارة كانت تتصدر مداخله لوحة "جنسية" كإعلان عن نشاطه ، وبعضهم قدر أنه كان بالمدينة خمسة وثلاثون بيتا من هذا النوع ، أي بمعدل بيت دعارة لكل 75 رجل بالغ في بومبيي ، بينما ذكر آخرون أن بيوت الدعارة كانت تضع قرب أبوابها فراشاً حجرياً .
تقول بيرد مؤلفة الكتاب أن الكذب والمبالغات تلعب دوراً هاماً في صناعة سياحة الآثار. فقد عثرت على وثيقة مدونة بخط طبيب من أطباء المدينة يتبين منها أن حمامات بومبيي الشهيرة التي ساهمت في صنع أسطورة بومبيي المدينة المثالية في النظافة والصحة كانت في حقيقة أمرها مرتعاً للبكتريا . ففي الوثيقة ينصح الطبيب أهل المدينة أن لا يسـتحموا بهذه الحمامات وبخاصة من بجسده جرح حديث وإلا تسمم الجرح وفسد بسبب قذارة المياه وتعفنها .
بومبيي ، حسب الدراسة التي قامت بها الباحثة بيرد لم تكن ، كما استقر في أذهاننا ، مدينة حمامات صحية ومياه ساخنة وأدوات نظافة ورجال ونساء يهتمون بأناقتهم ونظافتهم. ويقول توم هولاند في عرضه المنشور في الجارديان اللندنية إن بيرد أثبتت في كتابها أن المسئولين عن السياحة يعيدون بناء المواقع الأثرية بما يتناسب وتصورات السياح. بمعنى آخر يريد السائح أن يرى أطلال مدينة رومانية أنيقة ولكن فاسقة. يريد ما يؤكد أن كل سكانها فاجأتهم الحمم فدفنوا في التو واللحظة وهم يمارسون حياتهم اليومية العادية. إن صح ما أثبتته الكاتبة بيرد سيزداد حتما الشك وهو بالفعل قائم في أن كثيرا من البيوت والمواقع الأثرية هي في جانب كبير منها من صنع مهندسي سياحة وآثار وخبراء في العلاقات العامة يعملون لحساب حكومات وشركات معاصرة.
غير صحيح ،بالتالي، أننا كنا نعرف المعروف . الواقع أننا كما قال رامسفيلد لا نعرف ما لا نعرفه ، والدليل على ذلك أن بيرد في دراستها أعادت رسم تفاصيل الحياة في بومبيي في مخيلتها , ونقلته إلى مخيلتنا ، اكتشفنا معا أشياء جميلة ودقة متناهية تثبتها الأدلة . ففي اللوحة التي رسمتها المؤلفة لا نشاهد السكان في كل مكان في الشارع و في السوق كما حاول علماء آثار السياحة الإيحاء بذلك، فقد أثبت البحث أن معظم السكان وجدوا الوقت الكافي ليهربوا قبل نزول الحمم. رأينا، في الوثائق التي عرضتها علينا كقراء أسعدهم الحظ ذات يوم بزيارة أطلال المدينة، الطبيب مستخدماً أدواته الجراحية، ورأينا رجالا كثيرين دسوا مفاتيح بيوتهم في جيوبهم على أمل العودة.. وصبية يحتفظون بعملات معدنية في أكياسهم ورسامين وفي يد كل منهم فرشاة الرسم.. كل هؤلاء وغيرهم كانوا يمارسون حياتهم العادية عندما انفجر البركان وألقى بحممه وسحبه على المدينة فدفنها بمبانيها وشوارعها وبعض سكانها. .
عرفنا أيضاً أن سكان المدن في العصر الروماني كانوا يتواصلون مع شعوب بعيدة : هذه زجاجة عطر من بلاد البلطيق .. وهذه قاعة تصطف على جدرانها قناني نبيذ مستورد من شتى بقاع العالم المعروف وقتذاك. وتسرد الكاتبة تفاصيل ما عثرت عليه .. عثرت على قواقع و قشور بحرية وعظام متنوعة وأطلال وكهوف ورسوم ولوحات وعملات وحيوانات ومفاتيح.
كان الكتاب مفاجأة ركز عليها عرض، واهتم بها عرض آخر، وأهملها عرض ثالث. المفاجأة هي أن نتعرف على بومبيي جديدة غير بومبيي التي قدمها لنا المؤرخون والفنانون. أحد عروض الكتاب أثار في ذهني أسئلة تفوقت بأهميتها على المفاجأة. هل حقا كانت الحياة في منف كما رسمها لنا الأثريون الأجانب والمصريون أم أننا سنلتقي يوما بمن يرسم لنا صورة خائلية مستندة إلى أدلة موثقة عن الحياة في مصر القديمة تختلف عن الصورة التي نحتفظ بها في مخيلتنا ؟ وهل يستحق الأمر هذا العناء من جانب باحثين تعهدوا أن يثبتوا لنا بالوثائق والبراهين أننا لا نعرف ما نعتقد أننا نعرفه ، وبالتأكيد لا نعرف ما لا نعرف ؟
أيهما أفضل، أن نحتفظ بما نعرف ولا ننبش من جديد فنكتشف أننا لا نعرف ، أم ننبش لنعرف ما لا نعرف؟ الأسهل، وليس بالضرورة الأفضل، أن نكتفي بما نظن أننا نعرف. وهذا بالضبط ما يفعله هذه الأيام عدد من مثقفينا وعلمائنا ورجال السياسة والحكم في بلدنا.
Mary Beard
Pompeii: The Life of a Roman Town
pp.360
2008