النحاس باشا خرج من المولد بلا حمص
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 11 مارس 2020 - 9:48 ص
بتوقيت القاهرة
قد يكون مصطفى النحاس باشا من بين أكثر السياسيين المصريين الذين طالهم الظلم، لا لشىء سوى أنه دفع ثمن الصفة التى ألصقها الضباط الأحرار بالسنوات التى سبقت وصولهم للسلطة عام ١٩٥٢ باعتبارها سنوات العهد البائد.
ومن سوء حظ الرجل أنه كان رئيس أكبر حزب شعبى التفت حوله الجماهير خلال تلك السنوات فقد كان حزب الوفد رمانة ميزان معادلة الحكم شبه ليبرالى الذى استقرت قواعده وفقا لدستور ١٩٢٣.
ولما قرر الضباط بعد عام واحد من حركتهم إلغاء الأحزاب كان النحاس أول من دفع الثمن وتم شطب اسمه واسم حزبه من الدفاتر، التى تم تمريرها للأجيال التى جاءت بعد ذلك عملا بمبدأ المرحوم حسن البارودى فى فيلم (الزوجة التانية) «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا».
ومن بين المرويات الشائعة أن فتاة من بين خريجات الجامعة منتصف الستينيات طرقت باب قصره وكانت من بين المكلفات بعمل التعداد السكانى وحين سألت عن اسمه ووظيفته لم تعرف أن الرجل الذى يحدثها كان ذات يوم رئيسا لوزراء مصر يحرك الجماهير بإشارة من أصغر أصابعه وتخرج لتهتف باسمه وهو من قال جملته الشهيرة (من أجل مصر وقعت معاهدة ١٩٣٦ وباسم مصر أعلن إلغاءها) تحولت الجملة لمأثور شعبى لكن أجيالا نشأت وهى تجهل تماما الأدوار الوطنية التى أداها انطلاقا من إيمان راسخ بفكرة الحرية وانحياز واضح للعدالة الاجتماعية التى تمثلها حتى وهو على رأس حزب جماهيرى عانى من هيمنة قادته من كبار الملاك الذين دفعوا أثمان ترددهم فى تبنى إصلاحات اجتماعية كان بإمكانها تفادى الثورة التى كانت أيضا حلا ضروريا لا مفر منه.
فعل النحاس الكثير الذى يخلده من أجل الناس، فحكومته عام ١٩٥٠ هى التى أقرت التعليم المجانى حتى المرحلة الثانوية التى كان فيها طه حسين وزيرا للمعارف وهو أيضا من أقر إجراءات التأمين الاجتماعى على العمال قبل ذلك بسنوات، بالإضافة لدوره فى إبراز عروبة مصر، وهى سياسات طورها عبدالناصر فى جانبها الاجتماعى ودفع بها لتصبح أكثر راديكالية لكنه فى المقابل تفادى مسارها الساعى نحو الديموقراطية، كانت مواقف النحاس فى مجملها مواقف وطنية تليق بزعيم حزب شعبى حتى فى حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ الذى يراه البعض حادث خذلان وطنى تصرف فيه النحاس كسياسى أراد أن ينقذ نظام ويحافظ على كيان.
وفى كل الأحوال بدا مستعدا لدفع الثمن ولم يكن غريبا أن تخرج الجماهير لوداع جثمانه عند موته فى أغسطس من العام ١٩٦٥ وكان خروج الناس وراء زعيمهم القديم إشارة أولى على تململ من النظام الناصرى وتناقضاته بفضل هيمنة الأجهزة الأمنية التى احترفت سرقة أحلام الناس ومكاسبهم،
وكانت الجنازة الشعبية هى الإنصاف الوحيد للزعيم الذى لم نضع اسمه شأن الزعماء الآخرين على ميدان كبير أو محطة مترو ودون أن نقيم له تمثالا يخلد ذكراه، خرج الرجل من مولد التاريخ بلا حمص.
وكان من الممكن أن تظل صورته الإنسانية تعانى من الضباب الكثيف الذى أخفى وجهه النبيل لولا نشر مذكراته عن فترة النفى إلى سيسيل مع سعد زغلول وأربعة آخرين من قادة الوفد وهى فترة دقيقة تظهر خوفهم من أن يتكرر معهم ما جرى لأحمد عرابى، ومن كانوا معه فى منفى امتد لعشرين عاما،
وقد خرجت هذه المذكرات إلى النور أخيرا عن دار الشروق ضمن سلسلة مئوية ثورة ١٩١٩ وبتحقيق متميز قدمه الدكتور عماد أبو غازى وزير الثقافة السابق الذى كتب كعادته مقدمة دقيقة للمذكرات التى كانت بخط اليد كاشفا ظروف كتاباتها وطريقة الحصول عليها، وتعد المقدمة بذاتها بيانا منهجيا دالا على طرق التحقيق التاريخى وما يستلزمه من آليات نقدية تقوم على التحرى والتدقيق.
تظهر المذكرات للنحاس ورفاقه وجها إنسانيا يحررهم من إطار الزعامة ويقدمهم بظلال كثيرة وبلا رتوش، رجال يمرضون ويخافون على أموالهم ويكتبون رسائل لذويهم وزوجاتهم يتبادلون فيها أكثر التفاصيل بساطة.
وتؤكد المذكرات أحقية النحاس بالمكانة التى بلغها بعد وفاة زعيم الثورة بفضل تفانيه وعمله لأجل استمرار موجتها الثانية رغم ما عانى منه الوفد بعد انشقاق عدلى يكن.
ولعل ميزتها الكبرى أنها نص كاشف عن الأفق الذى أراده النحاس لتجربته التى ناهض فيها كل صور الاستبداد وتمسك معها بالحق فى إقرار المبادئ التى قامت من أجلها الثورة.