الوقف الفورى لقطع الكهرباء
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 10 يونيو 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
قد يتعارض عنوان المقال مع ما سبق أن أعلنه السيد وزير الكهرباء فى معرض توصيفه لأزمة الطاقة التى يمر بها القطاع، ومقدار الوفر الذى تحققه الدولة من عملية القطع المنتظم للتيار الكهربى عن المنشآت السكنية (على وجه الخصوص) فى مختلف المحافظات، والذى قدّره بنحو 3 جيجاوات/يوم، والذى تساوى قيمته فى حال تم تخفيف الأحمال بواقع ساعتين يوميًا بما قيمته 600 مليون دولار شهريًا. فى الواقع لا يمكن لأحد أن يجزم بالأثر الصافى لقطع التيار (تخفيف الأحمال) على مختلف أوجه النشاط الاقتصادى فى مصر، دون الرجوع إلى النماذج الكمية المزوّدة بالبيانات الدقيقة. لكن المرجّح أن التكاليف المباشرة وغير المباشرة مضافًا إليها مخاطر السمعة ومخاطر الاضطراب المجتمعى الناشئ عن استمرار هذا المسلك الحكومى، تفوق بكل تأكيد قيمة الوفر المذكورة.
• • •
أما عن التكاليف المباشرة (المادية) فتشمل الأضرار التى تتعرّض لها الأجهزة الكهربائية بفعل عدم انتظام التيار، والتى تشمل أجهزة تكييفات ومبرّدات وتليفزيونات ومراوح.. وغيرها من السلع المعمّرة التى يتعذّر استبدالها حاليًا فى ظل ارتفاع أسعارها على خلفية الشح الدولارى، وعدم انتظام الاستيراد طيلة ما يقرب من عامين. من الأضرار المادية المباشرة أيضًا فساد الأطعمة وانخفاض الإنتاج الداجنى الناتج عن نفوق الدواجن بفعل الحرارة المرتفعة. هذا إلى جانب تغير نمط الاستهلاك الذى يميل إلى زيادة استخدام أجهزة التكييف قبل انقطاع التيار وبعد عودته لتعويض فترات تخفيف الأحمال (شاهدت هذا بنفسى فى العراق لدى المشاركة فى برنامج للتحوّل الطاقى للدولة)، بما يقلل من حصيلة الوفر المقدّرة سلفًا. لا نذكر فى هذا السياق الأضرار النفسية والبدنية وفقد الأرواح التى سجّلت نتيجة لقطع التيار، نظرًا لصعوبة حصرها أو تقدير أى قيمة مادية لها. ولكن لو افترضنا أن 10% فقط من السكان يتحمّلون فاتورة تصل إلى 10 دولارات فى المتوسط لتعويض الأضرار السابقة فإن هذا يمثّل ما يقرب من 106 ملايين دولار/شهر.
فإذا تمت إضافة الخسائر الناتجة عن قطع وسائل التواصل التى يعتمد عليها عدد متزايد من المواطنين للحصول على الدخل، فإن التكلفة المذكورة يمكن أن تصل إلى 200 مليون دولار شهريًا. أما إذا أضفنا مخاطر السمعة التى تعترض الاقتصاد الكلى، وتضر بأنشطة المواطنين الاقتصادية فى تعاملها مع العالم الخارجى، وتكاليف استخدام المولدات الكهربائية التى تعمل بالسولار المدعّم (وتصل أسعارها إلى 120 ألف جنيه للمولّد المتوسط).. فإن التكاليف التى يتحملها المواطن قد تعادل إجمالى الوفر بكل تأكيد، ناهيك عن التكاليف التى يتحمّلها الاقتصاد الكلى ومرفق الكهرباء بشكل خاص، والذى اتضح من القطع غير المنتظم للتيار خلال الفترة الأخيرة أنه قد تحمّل بأضرار فى الشبكات والمحوّلات وخطوط النقل، لا يمكن حصر قيمتها على نحو دقيق اليوم.
وإذا وضعنا فى اعتبارنا أن الكثير من المبانى السكنية توجد بها مراكز للنشاط التجارى (المكاتب ومراكز التدريب، والورش البسيطة..) والكثير من العيادات والمراكز الطبية.. فإن مخاطر تخفيف الأحمال ترتفع بشكل كبير، خاصة مع تزايد حجم الاقتصاد غير الرسمى فى بلادنا إلى ما يقدّره البعض بنحو 40% من الناتج المحلى الإجمالى. أما عن التحدّى الهيكلى المزمن الذى يواجهه المواطن المصرى (حتى من قبل اتباع سياسة تخفيف الأحمال) والذى يتمثّل فى انخفاض الإنتاجية، فإن عدم انتظام التيار الكهربائى يزيد بكل تأكيد من حدة ضعف الإنتاجية خاصة خلال فترات ارتفاع درجات الحرارة (الأمر ينطيق على الطلاب الممتحنين أيضا)، كما يوفّر هذا الإجراء، الاستثنائى بطبيعته، تبريرا لضعف الإنتاجية وتراجع الكفاءة لقطاع من العاملين فى مختلف الأنشطة، خاصة العمالة غير الماهرة والتى تكثر فى الفئات الأقل دخلًا والأكثر فقرًا ما يعمّق من أزمة الفقر فى البلاد.
• • •
لأن التخطيط الرشيد للطاقة كان المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة، فإن البكاء على غيابه لن يفيد الآن، لكنه بالتأكيد يصلح لإدارة مخاطر الأعوام القادمة. البنية الأساسية المتوافرة فى مصر حاليًا، ووجود شبكة كهرباء مركزية قوية، تجعل من أزمة نقص الطاقة أمرًا قابلًا للحل فى وقت قريب، ودون انتظار لحل أزمة نقص الغاز الطبيعى، والتى يقدّر ألا تنتهى قبل عام 2028. زيادة مصادر الطاقة المتجددة فى مزيج الطاقة لم يعد رفاهية ولا وسيلة لتخفيض البصمة الكربونية لقطاع الطاقة وحسب، بل صار سبيلا حتميا للخروج السريع من الأزمة، خاصة مع انخفاض تكلفة الكيلووات المنتج من ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، وعدم الحاجة إلى خلايا التخزين نظرا لوجود شبكة قومية يمكن الاعتماد عليها طوال اليوم.
التوازن بين طاقة الرياح والطاقة الشمسية هو أمر مهم أيضًا، نظرًا لطبيعة إنتاج توربينات الرياح فى ساعات غياب الشمس، وانخفاض إنتاجيتها النسبية فى ساعات السطوع فى مصر. الاستثمار فى مجالات الطاقة النظيفة يمكن أن يؤتى عائدا معجّلا، خاصة إذا تم دعم وتشجيع المزارع الصغيرة والمتوسطة، والتى يمكن تمويلها بنظام التمويل الجماعى crowd funding عبر منصات إلكترونية متخصصة، علمًا بأن مزرعة شمسية بقدرة 2-5 ميجاوات قد يستغرق إنشاؤها ما بين 8 و14 شهرًا. ولأن وزارة الكهرباء كانت عازفة لسنوات عن التشجيع الجاد لهذا المصدر المتجدد من الطاقة، نتيجة الاستثمار الدولارى الكثيف فى المحطات العاملة بالوقود الأحفورى، فإن فصل هيئة الطاقة المتجددة عن منظومة الكهرباء صار أمرًا ضروريًا.
وحتى تتم اليوم زيادة نصيب الطاقة المتجددة من مزيج الطاقة فى الشبكة إلى مستهدفات 2040، والتى تزيد فيها على 60%، فلا بد من تطوير الشبكة القومية (خاصة شبكة التوزيع فى صعيد مصر) والتخلّص من المحطات القديمة التى تعمل بكفاءة تقل عن 40% وتأكل الغاز الطبيعى والمازوت بغير كفاءة، ودراسة التحوّل التدريجى إلى شبكة ذكية بشكل كامل.
فى الأجل القصير يمكن استيعاض نقص الوقود المنتج محليًا بالاستيراد من الخارج، مع توفير الكثير من أوجه الفاقد والهدر فى مرفق الكهرباء، عن طريق استحداث ضوابط حاسمة لمنع سرقة التيار، ورفع كفاءة الشبكات، وزيادة كفاءة إدارة الديون (والتى ذكرتها مرارًا وأشار إليها صندوق النقد فى مراجعته الأخيرة).. بما ينعكس على جانب التكاليف، ويخفّض من قيمة الدعم «المفترض» للطاقة. ولعل الخسائر الكبيرة التى حققتها بعض شركات توزيع الكهرباء، وربما كانت سببًا مباشرًا فى تغيير قياداتها حديثًا، هى مؤشر عملى على سوء إدارة المرفق، التى لا يجوز أن يتحمّلها المواطن فى صورة ضرائب تحت مسمى «الدعم التبادلى» (أشرت إليه سابقًا بوصفه الدعم الروبن هودى!)، أو رفع قيمة الاستهلاك لتعويض ارتفاع التكاليف الناتج عن مشكلات فى التشغيل والإدارة.
• • •
ما يُقال عن مرفق الكهرباء يمكن أن يذكر فى قطاع النفط والغاز. بل إن إدارة عقود التحوّط ضد تقلبات أسعار الغاز والمازوت عالميًا، يمكن أن توفّر على الكهرباء الكثير من التكاليف التى تتحمّلها فى صورة ارتفاع أسعار وقود تشغيل المحطات، حتى أصبحت وزارة الكهرباء المدين الأكبر لوزارة البترول والثروة المعدنية، وأصبحت عبئًا يصعب تحمّله طويلًا.
كاتب ومحلل اقتصادى